أقلام

الخطاب المنبري ومقتضيات المرحلة

سلمان الجباره

الإنسان والتطور، مفردتان متلازمتان، حيثما وجدتا تبلورت حياة الإنسان بمعنى الوجود كصيروة على خط الزمن، وتعاقب حركته في التاريخ الحضاري الذي يستمد منه كينونته المتغيرة كحالة متطورة لا راكدة، وهذا ما عبر عنه هيرقليطس في بنائه لمفهوم الصيرورة كسُنة كونية لازمت الإنسان في سعيه الحثيث للحفاظ على بقائه واستمرارية ديمومته على هذا الكوكب، آخذًا بمبدأ السنن الكونية للتدافع البشري في تسيد حضارة وأفول اخرى، وعلى إيقاع تلك المفردات صيغت جملة من المفاهيم منها: التنمية، التطور، والخطاب كمصطلحات حداثية بعد نظمها في نسق متكامل له قياساته، قُدِّمَتْ لنا عبر اللغة. وما يهمنا هنا هو الخطاب وتطوره في جميع أبعاده، لا اللغوية واللسانيه فحسب، بل شملت جانبًا أهم هو البعد الاجتماعي المعبر عن تطلعات وافكار وهموم وقضايا المجتمع، حيث تجلت الحاجة الماسة لمفهوم الخطاب كسلطة تملك نفوذًا وتأثيرًا مهمًا على جسد المجتمع، ولا سيما في أزماته ومحنه، وبرز الخطاب النهضوي القوي والفاعل في حركة التاريخ المفصلية، ومن أهمها الخطاب الحسيني في يوم العاشر من المحرم للعام الحادي والستين للهجرة، إذ أطلق صرخته المدوية في وجه الفساد والظلم، عرفت بالخطبة العاشورائية( لم أخرج اشرًا ولا بطرًا، وإنما خرجت طلبًا للإصلاح في أمة جدي رسول الله) فكان الخطاب وسيلة وأداة لغاية عظيمة وسامية لحمل رسالة المشروع النهضوي للأمة، اشتمل على عناصر اللغة البيانية، ومفاهيم قيمية عليا، وتمخض عنه انتصار الدم على السيف في معركة لم تكن متكافأة عسكريًّا، واستمر الزخم الخطابي بوتيرة متصاعدة ومختلفة الأنماط، بين الشعر والنثر والفكر والعلم حسب مقتضيات المرحلة، وتجلى ذلك في خطبة السيده زينب عليها السلام، حيث ارتجلت خاطبة في أهل الكوفة خطبتها الشهيرة التي بدأتها نثرٍا وتقريعًا وختمتها شعرًا لايسع المقام لذكرها، فأدخلت كهولهم وشبابهم في موجة من الحزن والبكاء والألم. وكذلك الحال في خطبة الإمام زين العابدين في الشام التي أماطت اللثام عن فساد يزيد وشناعة بغيه ووحشية طبعه، بقتله سبط الرسول صلى الله عليه وآله، وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام، مما أحدث تعاطفًا عارمًا كان بمثابة صاعق فجر غضب الأمة في وجه يزيد.

ومن الأهمية بمكان رصد تطور ذلك الخطاب المتجدد في عصور أئمة أهل البيت عليهم السلام، ولا سيما في فترة الاستقرار النسبي التي عاشوها، وانعكاسها على تقدم الخطاب الحسيني انطلاقًا من الواقع والظروف المحيطة به، فنلحظ تطورًا نوعيًّا بصور متعددة وأنساق مختلفة، وكان عهد الإمام الصادق عليه السلام أنموذجًا متميزًا حيث اتخذ طابعًا علميًّا أسس لفتح فكري لم تشهدله الأمة الإسلامية مثيلًا، فكان عهد الفتوحات العلميه في مختلف الفروع، وسجلت الحضارة الإسلامية حضورٍا يكاد يكون الأبرز بين الأمم في عصره.
وتتابع هذا الجريان التطوري أيضًا في عهد الإمام الرضا، وانطلاقًا من مقام الإمامة تجدد الخطاب انفتاحًا على الأمم الأخرى، فأصبح الخطاب أمميًّا، أدخلت فيه المحاورات والمناظرات مع رؤساء الديانات المختلفة، هذه ابرز المحطات الهامة التي احدثت فارقًا ملحوظًا في الخطاب الحسيني الإسلامي، والأدوار الكبيرة التي لعبها أئمة أهل البيت مباشرة في بناء أساساته الأولى، حيث أن الإسلام محمدي النشوء حسيني البقاء.

واستطرادٍا لفكرة التقصي التاريخي البعيد، ووصله بالمرحله القريبه، تستوقفنا على طريق البحث التجربة الذهبيه المعاصرة، وهي تجربة الشيخ الوائلي رضوان الله عليه إذ نقل الخطاب المنبري نقلة نوعية تناسب لغة العصر، فحقق انتشارًا كبيرًا وحضورًا مؤثرًا، لم يقتصر على المسلمين الشيعة فحسب، بل وجد آذانًا صاغية لدي المسلمين عامة. وشكل خطابه أنموذجًا رائعٍا في لغته الحضارية المعتدلة، وفي نهجه العلمي الرصين وطرحه المتين. واضعًا نصب عينيه أمانة الكلمة، وثقل المسؤولية كخطيب يحمل رسالة مقدسة، فلقد صان الأمانة عملٍا ونهجٍا، وذاد عنها بكل شجاعة وبسالة، فنراه ناقدًا متجردًا من العاطفه ليهدم الكثير من الممارسات أو الطقوس السلبية التي تشوه الخطاب، ومستعيضًا عنها بخطاب متوازن يجمع بين الأصالة والمعاصرة بما يناسب المرحلة، ومستشرفًا آفاق المد الفكري الحديث، ليس بالتماهي معه وركوب موجته، بل بالاتصال الواعي معه، والاستفادة منه فكريًّا وماديًّا ضمن حدود ثوابتنا، وبما تسمح به متغيراتنا.
فما أحوجنا اليوم إلي نهج شيخنا الفاضل كأنموذج شاخص بين أعيننا يكفينا مشقة البحث والتجريب.

ألا تستحق هذه المرحلة المثالية من تاريخ الخطاب المنبري وقفة للاستفادة والاستنارة من نهج وأسلوب وفكر هذا الخطيب العظيم؟؟؟

فحقًا هذه التجربه الفذة تستدعي من المهتمين بالخطاب المنبري التوقف عندها مليًّا، مع مراعاة أوجه الاختلاف ومتطلبات المرحلة، خصوصًا مع بروز ظواهر اجتماعية وفكرية مختلفة سارعت الثورة المعلوماتية وتطبيقاتها الذكية من تغول الفكر المادي وعولمته القسرية، مما نتج عنه ظواهر اجتماعية لاتناسب إرثنا الحضاري ومورثنا الديني، وتحمل شعارات براقة زائفة تسربلت برداء الإنسانية وحقوق الإنسان، موجهة نحو الشريك الاسري الأهم وهي المرأة، فاجتاح مده النسوي الجارف أساس كيان المجتمع وهي الأسرة، فأحدث خسائر فادحة بنسب متساوية للرجل والمرأة على حد سواء.

إذن: ما هو حجم الحضور النسوي المؤهل في الخطاب المنبري لما يشكل من حيثية مهمة في المعادلة؟ وهل يتناسب مع نصف المجتمع المتمثل في المرأه بوصفها الطرف الأهم في المعادلة الأسرية؟؟؟؟

ختامًا.
لا مناص من تفعيل دور الحضور النسوي المؤهل بالمعرفة والوعي، فالمرأة خير من تمثل المرأة، وهي الأقدر على التواصل مع محيطها، فذلك حقلها ومسرحها لما تتمتع به من خصائص تناسب طبيعتها، ليس في بعدها الشكلي الظاهري الذي تبناه الغرب في خطابه الإعلامي القائم على الصورة المرئية، بل في طبيعتها الفكرية الإنسانية. ولنا في عقيلة الطالبين زينب عليها السلام أسوة حسنة في بناء الخطاب الحسيني الملهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى