أقلام

البدايات

سهام البوشاجع

هل تذكر أول راتب استلمته من الوظيفة؟ والسعادة التي غمرت روحك، فالهدية الفخمة التي كنت لا تستطيع أن تشتريها لوالدتك في عيد الأم قبل عام، ها أنت الآن قادر على أن تشتريها لها وتشتري كذلك لوالدك هدية هو الآخر، وربما في طريقك أردت أن تشتري لكل أفراد الأسرة، من فرط سعادتك بهذه المناسبة.

وهل تذكر يومك الأول في الجامعة، وأنت تذرع الممرات، تبحث عن قاعة الدرس المخصصة لمتابعة دروسك الجامعية، ووجدت نفسك في مكان جديد وكبير لم تعتد التجول فيه، ومختلف تمامًا عن ممرات مدرستك الثانوية التي تخرجت منها؟

شعور ربما حفر في ذاكرتك الكثير من التناقضات بين الفرح، والقلق، واليوم وبعد سنوات من التخرج تبدو تلك المشاعر مجرد ذكريات.

وهل تذكر أول هاتف نقال اقتنيته، وتفاخرت به أمام أصدقائك، والشعور الذي انتابك حينها وأنت تمسك به وفي داخلك هاجس من السعادة العارمة كونك أخيرًا استقليت بهاتف يخصك أنت وحدك، لا يشاركك فيه أحد من أفراد أسرتك.

لا شك بأنك تذكر كل هذه البدايات، بل وتذكر أول ركوب لك للدراجة، وأول سقوط لك من على السلم، وتذكر أول وجبة برجر أكلتها، وأول كوب قهوة شربته من “ستاربكس” وأول سيارة تملكتها، وأول يوم نزلت فيه مسكنك الجديد، وأول مرة سافرت فيها بالطائرة، وأول مرة زرت فيها دولة خارج وطنك.

الكثير من الطعم المختلف، والشوق، واللذة، أو الألم، والحيرة، الذي صاحب تلك البدايات، يتراكم عبر الزمن، ليحتفظ في ذاكرتنا بكم هائل من أرقام متراصة لا تنسى وتبقى وكأنها في ذاكرة حاسوب مؤرشفة لحين استدعائها.

بالطبع ليست كل البدايات جميلة، كما أنها ليست كلها سيئة، لكنها تجارب وخبرات تصقل فيها ذواتنا في هذه الحياة، فالخطاب الذي كتبته لرئيسك في العمل باللغة الإنجليزية أول مرة، يختلف عن الخطاب الثالث أو الرابع الذي أرسلته وسيختلف تمامًا عن الخطاب العشرين لاحقًا، ففي كل مرة يتحسن أداؤك وتتراكم فه خبراتك، ومع ممارسة التجارب في العمل نفسه وتكراره، يتطور الشعور بل ويختلف، إلا أنه يبقى لشعور المرة الأولى شيئ من الخصوصية في النفس، تذكر فتضحك عليها، أو تذكر فتحزن عليها، أو نقول كما يردده أجدادنا دائمًا “ذكرى مرت ما ضرت” أو ذكرى “تذكر ولا تعاد.

هكذا نحن نعيش في حياتنا نتعلم من بداياتنا وتعلمنا هي الأخرى بدورها أن كل شيء لا بد له من بداية، وأن البداية هي مفتاح الانطلاق نحو الرقي ونحو الأفضل دائمًا، ومنها نتعلم من أخطائنا الكثير، الذي منه نجعل الأشياء تبدو أكثر جمالًا في الماديات، أو العلاقات، فهي ذلك النور الخافت الذي كلما عشنا وسطه بكل قوة وصبر زاد توهجه وألقه وقوة إضاءته فيزيدنا قوة وإيمانا بأنه لولا خطوة البداية الأولى، لما وصلنا للنهاية، وبوصولنا للنهاية، يشرق الأمل فينا للبدء من جديد، ببداية أخرى مختلفة.

حكت لي صديقتي عن تجربتها مع جارتها التي طلبت منها الذهاب معها للتسوق في أحد “المولات” وكان هذا الطلب الأول لجارتها التي تسكن بجوار منزلها الذي انتقلت إليه مؤخرًا، ولأن هذه الجارة ذات بشاشة في الروح ودماثة في الأخلاق والحيوية، كما تقول صديقتي، قبلت الخروج مع تلك الجارة للتسوق، وكانت المرة الأولى التي تذهب فيها مع شخص غير أخواتها أو المقربين منها والذين اعتادت الخروج معهم، وقد اقترحت عليها جارتها أن يدخلن محل ملابس معروف، ويشترين ملابس متشابهة لتحمل ذكرى” أول تسوق مع بعض “وبالفعل تقول صديقتي: لقد اشترينا الفستان نفسه لكل واحدة منا، تقول: لم ألبس ذلك الفستان أبدًا واحتفظت به في الدولاب، لا لشيء إنما لأنه لم يكن على ذوقي وإنما اشتريته استحياء من جارتي من عدم تلبية أول طلب لها مني، وتقول: كلما فتحت الدولاب ورأيت ذلك الفستان أتذكر ذلك اليوم، وذلك الشعور الغريب والمتحفظ نوعًا ما، والذي تبدل اليوم بالطبع بعد أن أصبحت جارتي أعز صديقة لي ولم أعد استحي منها في قول رأيي بصراحة في كل مرة نخرج فيها للتسوق معًا.

الحياة بدايات وبداياتها “علامات” فارقة، كأول شجار، أو أول حب، أو أول فشل، وأول زواج، وأول طفل، وأول فقد، وأول ألم، وأول ترقية، وأول رحلة، وغيرها، كلها نقش وحفر في القلب شعور وفي الروح وقع، وفي الذاكرة بصم، وصفحات متراكمة من ذكريات لا تنسى ولا تبدل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى