أقلام

العلامة المصلي والدور الأبوي في المدينة المنورة

فاضل السماعيل

قد تكون صاحب علم أو صاحب فضل أو خطيبًا بارعًا، ولكن أن تكون أبًا لمجتمع ما إضافة إلى اختصاصك الفقهي فهذا نادر الحدوث، فالأمر يحتاج إلى توفيق إلهي وذكاء اجتماعي، وهذا ما تميّز به العلامة الراحل سماحة الشيخ مهدي المصلي (رحمه الله).

إن القارئ لا يحتاج لمقالي هذا لبيان فضل المصلي وأثره القيادي، فبيانات المراجع وأهل الفضل في تأبينه وتزكيته يكفي لمعرفة هذه الشخصية الفذة، ولكن أجد الكتابة حوله أمرًا واجبًا بالنسبة لي ووفاءً للشرف الذي حظيتُ به بمجالسته لمدة عام كامل تقريبًا بالمدينة المنورة.

إن الحديث ذو شجون حول جمال سيرته، وإن رحيله المفاجئ الذي ثلم الدين وأيتم شيعة آل محمد (ع) بالمدينة المنورة لأمر جلل على قلب سيدي صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) إذ الأرض قد نقص طرف من أطرافها بفقده، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل عن قول الله عز وجل : (أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) قال : بفقد العلماء.

وأيّ عالم فقده أهل المدينة المنورة؟!!

فالنظرة البعيدة لشخصه للأمور قادته لأن يحيى الحوزة العلمية بالمدينة المنورة بعد اندثارها لسنوات طويلة، إذ نذر نفسه لذلك وخطى خطوته الجريئة وأحياها، مهاجرًا من تاروت _ مسقط رأسه _ نحو المدينة النبوية ومهبط وحي السماء، ورأى أنه من غير المعقول أن لا تكون هنالك حوزة علمية بجوار سيد الخلق والرسل ومنبع العلم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (ع) فسخّر ثقله العلمي لخدمة شيعة المدينة المنورة لأكثر من عقد من الزمن، متحملًا الغربة والبُعد عن الأهل والوطن، إلا أن ذلك يهون في سبيل تحقيق أهدافه العليا.

ولم يكتفِ بذلك بل جعل من التواصل الاجتماعي علامة بارزة في منهجه؛ ليسدّ هذا الفراغ الخطير الذي يخلفه مكثه في البيت فقط، فلو أنه اكتفى بدرسه الصباحي ولزم داره فسيأتي من لا حظّ له في العلم ويملأ هذا الجانب في المجتمع، فيصرف وجوه الناس إليه ويميل بهم حيثما تشتهي نفسه عن المنهج القويم.

لقد صبر شيخنا المصلي على تصرفات البعض مدركًا التفاوت المعرفي في المجتمع، ومطبقًا قول سيده ومولاه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): إذ يقول:

” آلة الرئاسة سعة الصدر “.

تاركًا الحديث لهم ليعبروا عما في خواطرهم، إلا أن يتحدثوا منكرًا في الدين، فهنا لا بدّ من إيقافهم بحزم وعزم وثنيهم عن أغراضهم دون جرح مشاعرهم، مطبقًا الآية الشريفة: ” فلوكنت فضًا غليظ القلب لانفضوا من حولك “.

فالعلامة المصلي (رحمه الله) مثال للعالم العامل الذي يسحرك بخلقه وبصمته ويثلج صدرك بنطقه فيثريك علمًا وحكمًا.

ففي أول لقاء كان بيني وبينه رحّب بي ترحيبًا حارًا فقرّبني منه نجيًا، فظننت أنه يحسب شخصي أنني من أهل الفضل، فقلتُ في نفسي لعله (مشبه عليّ) لكن فيما بعد اكتشفتُ أنه ذو جَنْب رحب، يمارس هذا الخلق مع الجميع على حدّ سواء.

ومن ثم توالت اللقاءات معه في مجالس أهل المدينة المنورة وفي كل مجلس يأتي الشيعة يلتفون حوله، فكان يسحرهم بابتسامته الهادئة الرقيقة كعادته، وإجاباته العلمية المميزة في المسائل الفقهية.

وكثيرًا ما كنّا ننتظر الخطيب يتم قراءته ويختمها لكي نجلس حول الشيخ المصلي (رحمه الله) وننهل من علمه وبيانه المميّز.

لكن الفجيعة كل الفجيعة في فقده ورحيله المفاجئ، إذ تيتّمت الحوزة العلمية بالمدينة المنورة وهو زعيمها، وتيتّم الشيعة هناك، وتيتّم جلساؤه الذين فازوا بشرف الدنيا والآخرة بمجالسته وصحبته، وكما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

” مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة “.

وفي رواية أخرى:

” من نظر لعالمٍ حبًا له فنظرته عباده “.

رحلت هذه الشخصية العلمية البارزة إلى مثواها الأخير في بقيع الغرقد بجوار الأئمة (عليهم السلام) فالسلام عليه يوم ولد على محبتهم ويوم مات ودُفن بجوارهم (ع) ويوم يُبعث حيًا أمامهم يوم القيامة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى