أقلام

الجندر ومنظومة المجتمع الإنساني

طالب البقشي

لا يزال الجندر يشكل مفهومًا جديدًا على الأسماع في عالمنا العربي بالرغم من تسويق المجتمع الغربي له باهتمام بالغ، إلا أن لغموض أطروحته الاجتماعية لم يلاقي رواجًا لدى غالبية شرائح المجتمعات العربية، وتجد أن هناك عدم وضوح في ترجمة هذا المصطلح وتعريبه، فأحيانًا يكون المرادف لكلمة Gender هو النوع الاجتماعي أو الجنس الاجتماعي أو الدور الاجتماعي أوالجنس البيولوجي.

ويعرف أن مفهوم الجندر مشتق من أصل لاتيني من اللفظ (genus)، وتعني في القاموس اللغوي الجنسَ وانتشر الجندر بمفهوم النوع الاجتماعي لدى الغرب في القرن التاسع عشر من خلال ثلاث موجات نسوية التوجه ظهرت في أميركا الشمالية، ومن ثم انتقلت إلى أوروبا الغربية عام 1988م، حيث طالبت النسويات بالمساواة بين الرجل والمرأة في الواجبات والحقوق.

وفي منتصف القرن العشرين استخدمت مفردة الجندر للإشارة إلى الحالة الاجتماعية القائمة على التنشئة والتلقين بأنَّ هذا ذكرٌ وتلك أنثى، بينما الجنسُ يشير إلى الاختلافات البيولوجية.

وعرّفت الموسوعةُ البريطانية الهويةَ الجندرية بأنَّه شعورُ الإنسانِ بنفسه كذكرٍ أو أنثى، ولا يرتبط فيها شعورُ الإنسان بخصائصه العضوية، وبحسب التفكير الغربي فأن الهوية الجندرية ليست ثابتةً بالولادة ذكر أو أنثى، بل تؤثر فيها العواملُ النفسية والاجتماعية بتشكيلِ نواةِ الهويةِ الجندرية، وهي تتغيرُ وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية كلما نما الطفل.

وظهر المصطلح لأول مرة في وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994م في 51 موضعًا، ثم أثير مرة ثانية في مؤتمر بكين للمرأة عام 1995 وذكر المصطلح 254 مرة دون تعريبه وجاء المصطلح في المادة الخامسة من سيداو مطالبًا في هذه المادة بتغيير الأنماط الاجتماعيَّة والثقافية لدَور كلٍّ من الرجل والمرأة؛ بهدف تحقيق القضاء على التحيُّزات والعادات العُرفية.

ويعد الجندر أحد أحدث المشاريع الاجتماعية لمنظري الغرب وتشمل حزمة من تحديث هوية المجتمع وتغيير التقاليد والعادات والأعراف الاجتماعية الأصيلة المرتبطة بالعلاقة القائمة بين افراد الأسرة في المجتمعات الانسانية السائدة منذو قرون متطاولة وإيجاد أنواع جديدة للأسرة.

ويستهدف هذا التغيير في الدرجة الأولى تحديث بنية العلاقات والروابط الأسرية، وتغيير توزيعَ الأدوار بين الرجل والمرأة، والقضاء على التمييز ضد النساء كما يراه علماء الاجتماع في الغرب، والمطالبة بمساواتهن بالرجال في الحقوق. إلا أن الطرح المعاصر للجندر والأنموذج المطبق في الواقع يعلي الجانب غير الأخلاقي وغير الإنساني لتحقيق منظومة اجتماعية تبيح المثلية والشذوذ والزنا، وتلغي الأسرة، وترفض الاختلاف بين الذكر والأنثى. بينما المنظومة الاجتماعية الإسلامية تؤصل لعلاقة التكامل والتعاون وتؤكد على التسامح في تقاسم الأدوار بين الرجل والمرأة بحسب متطلبات الحياة وظروف المعيشة.

لذلك فالعقل الغربي في إطار مفهوم الجندر يؤسس لأنماط جديدة للأسرة كما ذكر في كتاب “الأسرة وتحديات المستقبل” بإنَّ الأسرة يمكن تصنيفها إلى 12 شكلاً ونمطًا، ومنها أُسر الجنس الواحد؛ أي أُسر المثلية (الشواذ)، وتشمل أيضًا النساء والرجال الذين يعيشون معًا دون زواج، والنساء اللاتي ينجبن الأطفال سفاحًا، ويحتفظن وينفقن عليهم ، ويطلق على هذا التشكيل اسم الأسرة ذات العائل المنفرد، وتسمى الأم بـ (الأم المعيلة).. وهذا التغير في شكل الأسرة يعني فيما يعنيه ضمن النسق الجندري تغيير الأنماط الوظيفية المعهودة للأب والأم في الأسرة.

وحينما يتم التأمل وبحث أفكار الجندر الاجتماعية التي من ضمنها المواساة بين المرأة والرجل في الأدوار فأننا نلاحظ أن العلاقة تركز على التماثل والندية في الأدوار بين الرجل والمرأة، وليس كما هو سائد في المجتمع الإنساني من بناء العلاقة على تكامل الأدوار مما يترتب على مفهوم “الجندر” إشعال العداء بين الجنسين وكأنهما متناقضان ومتنافران وعليه يُزج بالجنسين في صراع إثبات الذات والتخاصم بشكل متفرد متمحور حول تحقيق الغلبه.

هذه النظرة التي من خلالها شكل (مفهوم الجندر) نجدها خاصة بالدور الاجتماعي والثقافي وليس بالتقسيم البيولوجي الذي لا يمكن تجاوزه أو تغييبه لتمرير أفكار معينة ترغب في مساواة مطلقة بين الرجال والنساء ليس لها ضوابط، ودون مراعاة للفارق البيولوجي وما يتطلبه من المجتمع الذي يرغب استثمار جهود النساء والرجال بما يلائم الطبيعة البشرية ومتطلبات المعيشة مبتعدًا في بناء المفهوم الجندري عن أصالة المنفعة للمجتمع.

والمتابع لتطور مفهوم الجندر يجد مدى التعاطف والدعم الذي تكنه ثقافة الجندر للمثليين، وترويج مفهوم (الطبيعي) على جميع العلاقات غير السوية وكل ذلك يعود لتناقض المثقف الغربي في طرحه المستجد للقضايا الاجتماعية والثقافية، فتارة يجرم المثلية ويعاقب عليها، وتارة يسن التشريعات المدنية بمسمى الجندر ويبيح المثلية والممارسات الشاذة كنمط أسري بديل عن الأسرة التقليدية.

 

ويسعى العقل الغربي على ترويج وفرض رؤيته لمفهوم الجندر في الأوساط العربية ولا سيما أن المجتمع العربي حمّال أنساق اجتماعية وثقافية مختلفة، فإذا تفشى المفهوم في نسيج المجتمع العربي ودخل المجتمعات النسوية دون وعي بما يشكله هذا المفهوم من تأثير مباشر في الأخلال باستقرار الأسرة وبشكلها المتناسق في وظائف أفرادها وتماسكها مما ينذر بتفكيك الأسرة التي تعدّ النواة الرئيسة للمجتمع الفاضل.

لذلك أدى المفهوم الجندري لرفع معدل التحرش والتعدي على المرأة في المجتمعات الغربية، وأفرز تزايد معدل الجريمة، وأيقظ الغرائز الجنسية لدى الأطفال حديثي السن وهم في طور التنشئة. من ذلك فأن استعجال العقل الغربي في تبني أية فكرة أو نظرية تطرح من باحث اجتماعي أو كاتب في العلوم الاجتماعية المستجدة التي تحاكي تطور ما وتدور في فلك الحداثة وتطبيقها في المجتمع دون إخضاعها للدراسة والبحث في نتائجها الاجتماعية والقانونية فإن النتائج تتسبب في انحدار المجتمع.

ولا سيما أن تطبيق المفهوم الجندري في المجتمعات الغربية يعني إحداث ثغرة في قانون الأحوال الشخصية المدني فلا يمكن إثبات الصفة الشخصية والقانونية لمزدوج الميول الجندري الذي يرى الفرد نفسه ذكر وأنثى في آن واحد ، ويتسبب في إرباك تطبيق العقوبة القانونية على الذكر الذي يرى أنه أنثى لميوله الأنثوية الجندرية ثم يتعدى ويرتكب جريمة الاغتصاب للأنثى.

فاذا كان تطبيق أنموذج الجندر قد فشل في وقتنا الحالي في المجتمع الغربي وأدى لإحداث فوضى اجتماعية وأخلاقية في الثوابت الاجتماعية فقد اعتاد المجتمع الإنساني على نسق الأسرة التقليدي وتراتب أدوار الزوح والزوجة بما يتكفل مبدأ التعاون وتكامل الأدوار، إلا أن الجندر لا يبحث عن الأفضل في الممارسات الاجتماعية الإنسانية المثلى ليعيد تشكيل المجتمع البشري بما يخدم الإنسانية وإرساء القيم الفاضلة.

لذلك فأن هناك قناعة راسخة في أزقة مثقفي الغرب بأن الجندر بطرحه المعاصر لا يزال يخضع لمخاض تصحيح هذا المفهوم ويتعالى سجال بضرورة إعادة صياغة أطروحته الاجتماعية الجندرية، فمن دواعي الوعي ما سوف يفرزه الجندر من تصدع المجتمع وتوقف نمط الأسرة بالصورة التقليدية التي عهدناها والسائدة في المجتمع البشري، والتي تتكون من أب وأم وأبناء وبالتالي توقف التناسل وظهور أجيال جديدة من أنماط الأسر التي ترتكز على رابطة من العلاقة الجنسية الشاذة وحسب، دون مراعاة ما يفرزه الجندر من إصابات المجتمع بالأمراض الجنسية المميتة وأعباء التكاليف العالية في معالجة المصابين بالأمراض الخطرة.

والجندر قد يؤثر في الأجيال المعاصرة في المجتمع الإنساني الكبير ويؤدي إلى إضعاف المؤسسة الأسرية ولا سيما في مجتمعنا العربي فلا عجب أن ترى في وقتنا المعاصر معدلات نسب الطلاق تتزايد يومًا بعد يوم وربما يتعاظم التأثير في الجيل القادم.

والمنظومة الإسلامية ضمن رؤيتها الاجتماعية تبني العلاقة بين الرجل والمرأة على أسس من القيم التي تتلاءم مع الطبيعة البشرية من الترابط والتراحم والمودة، وتراعي الفروقات البيلوجية في توزيع الأدوار وتقارب حفظ الحقوق والواجبات لكلاهما وتعمق المبدأ الإنساني بينهما.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى