أقلام

صندوق الطماطم المغشوش

محمد العيسى
كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحاً عندما دخل الاستراحة الشبابية وألقى بجسده على الكنبة وعلامات الغضب مرتسمة على وجهه. وقبل أن يستفسر أصحابُه عن سبب غضبه انطلق كالسيل الجارف يلعن ويسب بأقذع الكلمات بائع الخضار الذي يقول أنه غشّه في صندوق طماطم اشتراه منه بمبلغ 10 ريالات واكتشف عندما عاد للمنزل أن الطبقة السفلى من الصندوق كانت تحتوي على حبات طماطم صغيرة والكثير منها كان فاسداً.
حاول أصحابه تهدئتَه وخاصةً أن الأمر بسيط والسعر رخيص ولا يستدعي كل هذا الانفعال والغضب، ولكن محاولاتهم كانت بلا جدوى حيث أخبرهم أن المسألة ليست مسألة نقود بقدر ما هي مسألة كرامة. نعم. إنها الكرامة، فهذا البائع البسيط قد استهان بذكائه وظن أنه يستطيع أن يخدعه وهو الشاب الجامعي المتخرج بتفوق مع مرتبة الشرف. ثم أقسم أنه لن يترك هذا البائع يفلت بجريمة غشه وخداعه له.
حاول أصحابُه تهدئتَه ولكنه لم يكف عن هديره الغاضب إلا بعد أن تناول الريموت كنترول وأخذ يقلّب محطات الستالايت وتوقّف فجأة عند مشاهدة منظر إحدى الحسناوات في مشهدٍ رومانسي في أحد المسلسلات. لقد تسمّرت عيناه في تلك الحسناء وهي تناجي حبيبها في المسلسل بأرق العبارات وأعذب الكلام. لقد أعجبه كلّ شيءٍ في تلك الحسناء؛ رموش عينها الطويلة وحمرة خديها المتورّدة وصفاء بشرتها وتفاصيل جسمها المليء بالبروزات الملفتة وملابسها الأنيقة وحديثها الحالم، وراح يتابع المشهد باستغراق لدرجة أنه بدا وكأنه نسي تماماً قضية صندوق الطماطم المغشوش.
بعد أن غادر الاستراحة ورجع إلى المنزل صاح بصوته العالي يطلب من زوجته أن تضع وجبة الغداء. لم يمضِ كثير من الوقت قبل أن تدخل زوجته غرفة الطعام وبيدها صينية مليئة بما لذ وطاب من الطعام. أثناء الأكل، كان يتأمل في منظر زوجته وهي ترتدي تلك الدشداشة المنزلية ويجري عملية كبيرة من المقارنات بين جمال شكلها وملبسها مع ما رآه في تلك الممثّلة الحسناء وكان يلعن حظه العاثر على تلك الفروق الشاسعة.
أثناء شرب الشاي راحت زوجته تشتكي له من معاناتها في تربية أطفاله وتحكي له عن بعض مشاكل المنزل التي تحتاج إلى تدخلّه لكي يصلحها فقفز ذهنه وراح يجري المقارنات بين هذا الحديث الذي يجلب النكد مع حديث تلك الممثلة الرومانسي الحالم مع حبيبها ويلعن حظه مرةً أخرى على هذا الفرق الشاسع.
هذه المقارنات وأمثالها التي كانت تتكرّر كثيراً في حياته وتُستنهض مع كل فاتنة يراها على الشاشة جعلته يدفع ثمناً باهظاً، إذ لم تفتأ تشعره بالتعاسة وسوء الحظ، وقد أثّرت على اقتناعه وحبّه لزوجته وعلى علاقته معها فاضطربت حياته وتعس حاله.
يرفض كثيرٌ من الرجال أنواع الغش لأن الغش يطعن في ذكائهم ويستخف بعقولهم ويحتال عليهم ليسلب في النهاية شيئاً منهم. ولكن غش الفن المرئي الذي يقدم لهم نساءً ليس فيهن شيئاً كسائر النساء؛ إذ كل شيء فيهن تركيب (فالرموش تركيب والحمرة والصفاء طبقات أصباغ وكل بروز في تفاصيل أجسادهن هو حشو سيليكون وكل حديث لهن هو سيناريو مكتوب)، لا يلتفتون إلى أنه غشٌّ، فيه استغفالٌ لهم، وامتهانٌ لكرامتهم، واستخفافٌ بعقولهم، يجعلهم يعيشون وهماً طويلاً يخسرون بسببه أكبر ما يملكون؛ وهو القناعة والطمأنينة والعلاقات الزوجية الجميلة الهانئة التي هي أسُّ الحياة السعيدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى