أقلام

(من أدلة علم أهل البيت بالعلم الحديث)

علي محمد عساكر.

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
بعد وقوفه على موضوعنا (مدرسة أهل البيت واستقلالها عن الدولة) بما فيه من إشارة منا إلى تطرق أئمة أهل بيت العصمة والطهارة إلى مختلف العلوم، بما في ذلك العلوم الطبيعية والمادية، سأل الأستاذ (…..) عن تلك العلوم: أين هي في عصرنا الحاضر؟! ولماذا لا نرى منها إلا ما يتعلق بالعلوم الشرعية؟!

وبعد الشكر الجزيل لتفاعل الأستاذ مع الموضوع، وإثارته لهذا السؤال حوله، أود أن أشير إلى أن موضوع تناول أهل البيت عليهم السلام للعلوم الحديثة واسع ومتشعب، وعرض ما ورد عنهم في ذلك، والتعليق عليه، ونقل ما يقوله أهل الاختصاص عنه وفيه، ليس فقط يستدعي الإطالة، بل هو يحتاج إلى تأليف كتاب كبير الحجم كثير الصفحات، كما حدث ذلك فعلا فألفت في ذلك المؤلفات الكثيرة التي الكثير منها في متناول اليد، ويمكن الوقوف عليه من أجل التأكد من مدى صحة هذا المدعى.

ووجود هذه المؤلفات بما فيها من عرض لما جاء عنهم صلوات الله وسلامه عليهم مما له علاقة بهذه العلوم يصلح أن يكون جوابا لهذا السؤال الوجيه، بمعنى أن وجود هذا التراث الذي بين أيدينا هو دليل خوضهم في هذا العلم، وهذا وحده يكفي في إثبات عدم صحة القول بأن ما ورد عنهم من علوم لم يتجاوز الحدود الشرعية.

ومع هذا يمكننا إثارة بعض الأمور المتعلقة بهذا الموضوع، لتكون بمثابة الإجابة على هذا السؤال، وربما تصلح أن تكون أدلة إثبات على صحة وأصالة هذا المدعى، وسنجعل ذلك في عدة نقاط على النحو التالي:

النقطة الأولى- إحاطتهم بالعلوم القرآنية:
في عقيدتنا أن الله عز وجل كما أنزل القرآن الكريم على نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله، كذلك أورث علمه وحقائقه العترة الطاهرة من أهل بيته الأكرمين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وفي موضوعنا (مدرسة أهل البيت واستقلالها عن الدولة) نقلنا كلام الشيخ محمد جواد مغنية في بيان عقدية الشيعة في علم أهل البيت بما فيه من تأكيد على أنهم يعتقدون أنه علم محيط بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، حيث قال رحمه الله تعالى: (إن علوم الأئمة وتعاليمهم يحدها -في عقيدة الشيعة- كتاب الله وسنة نبيه، وإن كل إمام من الأول إلى الثاني عشر قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين من الألف إلى الياء، بحيث لا يشذّ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلا وتأويلا، ولا شيء من سنة رسول الله قولا وعملا وتقريرا…).

وفي القرآن الكريم بعض الآيات الكريمة التي يمكن منها استفادة هذه الحقيقة وإثباتها، ومن بين تلك الآيات البينات قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ، وقد ورد عن الباقرين الصادقين عليهما السلام أنهما قالا عند تفسيرهما لها: (هي لنا خاصة، وإيانا عنى)
قال السيد الطباطبائي: (واعلم أن الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في كون الآية خاصة بولد فاطمة كثيرة جداً)
ولا غرابة في ذلك، إذ أنهم سلام الله عليهم -كما يقول الطبرسي-: (…أحق الناس بوصف الاصطفاء، وإيراث علم الأنبياء، إذ هم المتعبدون بحفظ القرآن وبيان حقائقه، والعارفون بجلائله ودقائقه)
ومعنى آية الاصطفاء وإيراث الكتاب هو أن الله تبارك وتعالى بعدما أوحى القرآن إلى نبيه المصطفى، وأنزله على قلبه صلى الله عليه وآله، أورثه أهل بيته، كونهم صلوات الله وسلامه عليهم الذين اصطفاهم الله من عباده.

ومعنى إيراثهم القرآن الكريم هو تركه عندهم، وإيقافهم على جميع علومه ومعارفه وحقائقه وخزائنه وأسراره…بحيث لا يشذ عنهم علم شيء منه أبدا وعلى الإطلاق.

لذا نرى النبي صلى الله عليه وآله قرنهم بالكتاب، وجعلهم قدوة لأولي الألباب، وأمر الناس بالرجوع إليهم، وأخذ العلم منهم، وعدم التقدم عليهم لا في قول ولا عمل، فقال في حديث الثقلين المتفق على صحته عند الفريقين: (إني مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإني سائلكم عنهما يوم القيامة، ولا تتقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)

ومما قلته في موضوع كتبته قديما بعنوان (بين القرآن والعلم الحديث): إن القرآن الكريم تناول الكثير من القضايا العلمية التي سبق فيها العلم الحديث بمئات السنين، وقد أُلّفت الكثير من المؤلفات عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، منها على سبيل المثال وليس الحصر، كتاب: (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) للدكتور زغلول النجار، وكتاب: (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) لعبد الدائم الكحيل، الذي له موسوعة ضخمة بعنوان: (الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) وصلت الآن إلى قرابة (21) مجلد، وهو يأمل أن يصل فيها إلى (100) مجلد، وكتاب: (الإعجاز الطبي في القرآن) للسيد الجميلي، وغيرها من المؤلفات المتعلقة بهذا الموضوع، وهذا عدا الفصول أو البحوث المعقودة حول هذا الإعجاز في الكثير من الكتب ذات العلاقة، مثل ما جاء في المجلد الثاني من كتاب (الإلهيات) للمحقق الشيخ جعفر السبحاني، وكتاب (معجزات الرسول) للدكتور مصطفى مراد، وكتاب (علامات النبوة) لعبد الملك علي الكليب، وغيرها الكثير إضافة إلى ما تضمنته التفاسير حين مرور المفسرين بآيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

وليس قصدنا الآن أن نقول بصحة كل ما جاء في هذه الكتب عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، بل نحن لا نشك في عدم صحة بعض ما جاء فيها، ولا نستبعد تكلّف البعض في ليّ عنق هذه الآية أو تلك بقصد إثبات توافقها مع بعض النظريات العلمية الحديثة، وإنما القصد كله هو الإشارة إلى أن القرآن الكريم تناول الكثير من القضايا العلمية وتحدث عنها في بعض آياته البيّنات، حتى ولو على سبيل الإشارة، إذ ليس بالضرورة أن يتناول القرآن كل شيء بالتفصيل.

كما نقول وبكل ثقة واطمئنان: أنه لا يوجد أي تناقض بين الحقائق العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم وبين ما جاء في العلم الحديث، بل أن بعض الحقائق التي اكتشفها العلم الحديث أكّدت صدق ما جاء في القرآن الكريم، وشهدت له بالسبق في هذا الميدان كما في غيره من الميادين.

وهذا ما أكّده الكثيرون من الكتّاب والمفكرين والباحثين، ومنهم على سبيل المثال الكاتب الفرنسي: (موريس بوسيل) الذي أكّد على “أن القرآن الكريم وحده لا يتعارض ولا بأي حال مع اكتشافات العلوم الحديثة”.

وقال البروفيسور (تيجانات تيجاسين): “خلال السنوات الثلاث الأخيرة أصبحت أهتم بالقرآن، ومن دراستي وما تعلمته من هذا المؤتمر أعتقد أن كل شيء مسجل في القرآن منذ أربعة عشر قرن مضت ينبغي أن يكون هو الحقيقة التي يمكن إثباتها بالوسائل العلمية”.

ويقول البروفسور (كيث مور) الذي يقال أنه كان من أكبر علماء التشريح والأجنّة في العالم: “قد اتضح لي أن هذه القضايا يجب أن تكون جاءت إلى محمد بن عبد الله، لأنه تقريبا كل هذه المعلومات لم يتمّ اكتشافها إلا بعد مرور عدة قرون من زمنه، وهذا يثبت أن محمدا كان رسولا من الله.
وحين سئل: هل هذا يعني أن القرآن كلام الله؟
كان جوابه: أنا لا أجد صعوبة في قبول ذلك”
هذا بعض ما قلته في موضوعي (بين القرآن والعلم الحديث) والآن أقول: وإذا كنا نعلم أن في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تناولت القضايا العلمية، والعلوم الطبيعية، وسلطت الضوء على النظام الكوني المدهش العجيب، وأن الله عز وجل أورث تلك الصفوة المختارة ذلك الكتاب المكنون بكل ما فيه من العلم المصون، فتكون النتيجة المترتبة على ذلك هي إحاطتهم بتلك العلوم الربانية، والمعارف الإلهية، ووقوفهم عليها، ومعرفتهم بها، وإلا لم يكن لذلك الاصطفاء والإيراث معنى.

وإذا كان النبي المصطفى صلى الله عليه وآله جعلهم عدل القرآن، وأمر بالرجوع إليهم، وعدم التقدم عليهم في قول أو عمل، ونهى عن تعليمهم، وأكد على ضرورة أخذ العلم منهم، وأطلق كلمة العلم إطلاقا، فلم يقيدها في علم معين كعلم الفقه مثلا، فهذا يعني أنهم عليهم السلام على دراية ومعرفة بكل تلك العلوم على الإطلاق، بل هم أعرف بها من غيرهم صلوات الله وسلامه عليهم.
النقطة الثانية- الشهادات النبوية:

لقد أكد النبي صلى الله عليه وآله أعلمية أهل بيته على سائر الناس، وإحاطتهم بكل العلوم والفنون في أحاديث متضافرة، بل متواترة، وقد روى هذه الأحاديث المسلمون جميعا، وخرجوها في أمهات المصادر والمراجع بطرق متعددة، وأسانيد مختلفة، وأرسلوها إرسال المسلمات، مؤكدين صحتها، قاطعين بصدورها عن الذي {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} .

ونحن نستغني عن ذكر تلك الأحاديث المشهورة، والتي في أمهات المصادر مسطورة، ومن على رؤوس المنابر مذكورة، بقول علي أمير المؤمنين عليه السلام فيما اتفق عليه الفريقان دون شك أو نكران: (علمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب)
وفي رواية القندوزي في ينابيع المودة: (أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله أسرّ إليّ ألف حديث، في كل حديث ألف باب، ومن كل باب ألف مفتاح، وإني أعلم بهذا العلم…)

وهذا الحديث الجليل ربما من أصح الأحاديث وأكثرها شهرة وتواترا بين المسلمين، وكان الاهتمام به كبيرا جدا، وإلى حدّ أن ألفت حوله المؤلفات، وعقدت له الفصول، وقدمت حوله الدروس، كما هو الحال في كتاب (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي) لمؤلفه أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني، كما خصص السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني الدروس الثلاثة من الدرس (153) إلى الدرس (156) لهذا الحديث وذلك في المجلد السادس من كتابه (معرفة الإمام) ولو أنك رجعت إلى كتب الحديث، وكتب الفضائل، وغيرها لرأيتها تروي هذ الحديث بطرقها المتعدة وأسانيدها المختلفة، مما يثبت صحته بما لا مزيد عليه.

فألف ألف باب من العلوم والمعارف يحويها ويعيها صاحب الأذن الواعية، وقد استقاها صلوات الله وسلامه عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله، وبدوره أورثها الأئمة من بعده سلام الله عليهم أجمعين!

وبتعبير العصر: مليون نوع من أنواع العلوم هي عند علي وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين توارثوها من خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، فهل تفكرتم في هذا وتأملتموه جيدا؟! وهل لكم أن تقارنوه بما وصلت إليه البشرية في حضارتها العلمية عبر تاريخها الطويل؟! لتروا هل البشرية -رغم ما حققته من إنجازات علمية باهرة، مكنتها من أن تغزو الفضاء، وتغوص في أعماق البحار، وتنزل إلى تخوم الأرض، وتحقق الكثير من الاكتشافات العلمية في الطب والهندسة والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء…وعلى جميع الأصعدة العلمية، والمستويات المعرفية- هل ذلك كله يمكن أن يقاس بما عند علي وأهل بيته من علم ومعرفة؟! بل هل يصل إلى عشر العشر من ألف باب، يفتح من كل باب ألف باب من أبواب العلوم؟! فكيف والحال هذا نستنكر أو نستغرب أنهم تحدثوا في العلوم الطبيعة؟ أو نتجرأ ونقول: لم يرد عنهم أي علم ألا العلوم الشرعية؟!

النقطة الثالثة- تصريحاتهم وسيرتهم تؤكدان أعلميتهم:
لهم صلوات الله وسلامه عليهم الكثير من التصريحات التي يؤكدون فيها أنهم يملكون من العلوم ما لا يملكه غيرهم، وأن علمهم علم شمولي، بل وتجاوز العلوم المادية إلى العلوم الغيبية، وما وراء المادة والطبيعة، وهي تصريحات كثيرة جدا، ومروية في أمهات المصادر الإسلامية المتنوعة، ككتب الحديث والسيرة والفضائل وغيرها.
ومن ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام: (لو استقامت لي الأمة، وثنيت لي الوسادة، لحكمت بين أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حتى يزهرا في السماء، وإني قد حكمت في أهل القرآن بما أنزل الله فيه)

وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (سلوني، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، سلوني عن كتاب الله، فوالله ما بين دفتيه آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل)
وكذا مضمون قوله عليه السلام: (سلوني عن طرق السماء فأنا أعلم بها من طرق الأرض)
وكم مرة أشار إلى صدره وهو يقول: (إن هاهنا لعلما جما لو أصبت له حملة)
ومما ينسب إليه صلوات الله وسلامه عليه:
لقد حزت علـم الأوليـن وإنـنـي ضـنـيـن بـعـلم الآخـريـن كـتـوم
وكاشف أسرار الغيوب بأسرها وعنـدي حـديـث حـادث وقـديـم
وإنـي لـقـيـّوم عـلـى كــل قـيــّم محيط بـكـل الـعـالـمـيـن عـلـيـم

وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الإمام أمير المؤمنين حين طلب أن يسألوه فإنه عليه السلام لم يقيد ذلك بعلم معين، كالعلوم الدينية عقيدة وشريعة مثلا، بل جعل الطلب عاما مطلقا مما يعني أنه صلوات الله وسلامه عليه يريدهم أن يسألوه في عن أي شيء، وفي أي علم يريدون فهو مستعد للجواب، وهو ما يؤكده صريح قوله عليه السلام: (سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم) فلاحظ جيدا قوله المؤكد بالقسم: (فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم) وما كان ذلك منه ليكون لولا إحاطته صلوات الله وسلامه عليه بمختلف تلك العلوم.

كما ورد عن أهل بيته الكثير من النصوص في هذا المعنى، والتي لا داعي لذكرها نظرا لشهرتها، ومعرفة الكثيرين بها، كما أن قصدنا الاستشهاد وليس الاستقصاء.

أما سيرتهم العملية سواء في أجوبتهم على الأسئلة، أو مناظراتهم مع الآخرين، أو عقدهم للحلقات العلمية وتزعمهم لها، وجلوس أهل العلم بين أيدهم صاغرين متواضعين، ينهلون من علمهم، ويتتلمذون على أيديهم، ويتخرجون من مدارسهم، فهو ما يشهد به التاريخ، ويؤكده المؤرخون والمترجمون.

ولولا أننا في إجابة سؤال ورد إشكال وليس بصدد تأليف كتاب، وإلا لنقلنا الكثير مما قاله المؤرخون وغيرهم عن علم أهل البيت ومدرستهم، وكيف كانت مدرسة شامخة، جامعة لشتى العلوم، ومختلف الفنون، وقد تخرج منها الكثيرون من العلماء والمفكرين، الذين أثروا الحضارة الإنسانية، وأغنوا الفكر البشري، بمؤلفاتهم القيمة، ومصنفاتهم الرائعة بما تحويه من علوم رائدة استقوها من آل محمد عليهم السلام، وقد أشرنا إلى ذلك في موضوعنا (مدرسة أهل البيت واستقلالها عن الدولة)

النقطة الرابعة- تراثهم العلمي يشهد بتنوع علومهم:

إن تراثهم العلمي الذي وصل إلينا، وأصبح بين أيدينا، ورأيناه بأم العين، يشهد بتنوع علومهم صلوات الله وسلامه عليهم ليمتد ويشمل كل فنون العلم، وحقول المعرفة، بما في ذلك القضايا الكونية، والعلوم الطبيعية، حتى ألفت في ذلك الكثير من المؤلفات، كما أوضحنا ذلك بشيء من التفصيل في موضوعنا (أهل البيت والعلم الحديث) مما يعني أن قولنا بإلماهم بهذا العلم، وتكلمهم فيه ليس مجرد ادعاء فارغ، أو هو فقط كلام إنشائي عام مفتقر إلى الأدلة والبراهين، بل له من الأدلة ما لا يقوى المكابرون على نقضه، ومن البراهين ما لا سبيل للمنكرين إلى دحضه، وليس دليلنا عليه فقط هو القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، بل نحن نملك الدليل الحسي الملموس، المتمثل في هذا التراث العلمي المنقول إلينا جيلا بعد جيل، والذي اعترف بصحته أو بعضه حتى غير المسلمين.

فلو كان دليلنا عقليا، لقبلنا إنكار المنكرين بحجة أن العقل لا يمكن أن يحكم في هذه القضية لا سلبا ولا إيجابا، لخروجها عن اختصاصه.
ولو كان دليلنا غيبيا، لقبلنا جحد الجاحدين ممن لا يؤمنون بالغيب، ويحاولون تفسير كل الظواهر والأشياء تفسيرا ماديا محضا.

ولو كان دليلنا فقط قرآنيا، لقبلنا تكذيب المكذبين بحجة أن القرآن الكريم حمّال أوجه.
ولو كان دليلنا فقط حديثيا، لقبلنا قول القائلين: هذه الأحاديث -رغم كثرتها- كلها مكذوبة وموضوعة.

أما أن نقدم الدليل الحسي المتمثل في هذا النقل التاريخي شبه المتسالم عليه والموثق بالشواهد والأمثلة والأدلة والبراهين، وفيما وصلنا من تراث علمي محسوس ومشهود، ونضعه بين أيدي المنكرين، ويرونه بأم العين، ومع ذلك لا يصدقون، وعلى موقفهم المكذب يصرون، بل ويعتبرون القول بذلك استحمارا للناس، واستخفافا بالعقول، وضحكا على الذقون! فحقيقة لا أدري في هذا ماذا أقول؟! فهل هم من الذين {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، أم ماذا أيها المنصفون؟!

النقطة الخامسة- الكثير من تراثهم لم يصل إلينا:
هناك نكتة جوهرية في الموضوع من المهم جدا أن نلتفت إليها، وهي ضرورة التفريق بين خوضهم لتلك العلوم، وبين عدم وصول تلك العلوم أو الكثير منها إلينا، فهم صلوات الله عليهم تطرقوا إلى تلك العلوم، وتناولوها بشكل أو آخر بدليل ما قدمناه من الشواهد، ولكن المشكلة أن تلك العلوم أو الكثير منها ربما لم يصل إلينا، كما لم يصل إلينا الكثير مما يتعلق بهم وبفضائلهم ومناقبهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وكان لهذا الكثير من العوامل والأسباب التي نشير إلى بعضها إجمالا:

أولا: إن الدول المتعاقبة ناصبتهم العداوة والبغضاء، وما كفاها أن حاربتهم عسكريا إلى أن أبادتهم عن جديد الأرض، بل شنّت ضدهم حربا هي أخطر وأشد فتكا من الحرب العسكرية بكثير، تلك هي الحرب الفكرية، حيث حاولت أن تشوّه صورتهم النقية، وتضع الأحاديث المكذوبة في ذمهم وانتقاصهم، كما ضيقت الخناق على شيعتهم إلى حد أن منعتهم من ذكرهم، أو الحديث بفضلهم، بل وصل الأمر إلى حد مداهمتهم في بيوتهم، وإتلاف كتبهم ومؤلفاتهم، أو أن يقوم الشيعة أنفسهم بإتلاف تلك المؤلفات خوفا من تلك الضغوط والمداهمات، كما حدث ذلك مثلا لأبي أحمد، محمد بن أبي عمير الأزدي، الذي أدرك ثلاثة من الأئمة (الكاظم والرضا والجواد) وكان من أوثق أهل زمانه عند الخاصة والعامة، وأنسكهم وأورعهم، وأوحد أهل زمانه في الأشياء كلها (بحسب وصف الجاحظ له) وهو غزير العلم، متنوع المعرفة، بشهادة كثرة مؤلفاته التي بلغت (94) مؤلفا في علوم شتى، ولكن المؤسف حقا أن جميع هذه المؤلفات بما تحويه من علوم مختلفة قد خسرتها البشرية، وحرمت من الاستفادة منها، ومما قيل في سبب ذلك أن أخته دفنتها خوفا من تحري وتفتيش السلطة العباسية التي كانت قاسية جدا في تعاملها مع ابن أبي عمير، والتعذيب له، والتنكيل به، بغية أن يعرفها بأسماء الشيعة في العراق.

وليس ابن أبي عمير هو الوحيد الذي خسرت البشرية فكره ونتاجه بسبب ذلك الجور والتعسف ضد أئمة أهل البيت وشيعتهم عبر التاريخ، ولا شك أنه لولا العناية الإلهية بهم صلوات الله وسلامه عليهم وإلا لما وصل إلينا حتى ما وصل عنهم، وعن سيرتهم الطاهرة، وحياتهم العطرة، وفضائلهم الباهرة، وتراثهم العلمي الخالد المجيد.

وإلى هذه الحقيقة يشير الإمام الشافعي حين قال وقد سئل عن الإمام علي عليه السلام: (ما أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله خوفا، وأخفت أعداؤه فضائله حسدا، وقد شاع من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين).

وإلى هذا المعنى يشير تاج الدين في قوله:
لـقـد كـتـمـت آثـار آل مـحـمـد محبوهم خوفا، وأعداؤهم بغضا
فشاع لهم بين الفريقيـن نـبـذة بها ملأ الله السموات والأرضا

ثانيا: إن الكثير من تراثهم الفكري ونتاجهم العلمي لم يجمع، وما جمع فقد أو لم يطبع، ولهذا نجد الدكتور محمد علي البار يقول وهو يتحدث عن مصنفات الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: (للإمام علي الرضا مصنفات كثيرة، بعضها مفقود، وبعضها موجود، وبعضها مطبوع، وبعضها مخطوط…)

وما قاله الدكتور محمد علي البار عن مصنفات الإمام الرضا عليه السلام ينطبق على مصنفات سائر المعصومين أو بعضها، فليس كل مؤلفاتهم هي في حوزتنا وبين أيدينا لنطلع عليها، ونتعرف عليها، ونستفيد منها، ولعل في بعض تلك المصنفات الكثير مما له علاقة بالعلوم الطبيعية، التي تناولوها في دروسهم العلمية المختلفة صلوات الله وسلامهم عليهم أجمعين.

ثالثا: إن الكثير من مؤلفات أصحابهم الذين أخذوا العلم عنهم ودونوه في مؤلفاتهم، أيضا هي مفقودة، ولم يصل إلينا منها إلا أسماؤها فقط، ولو أنك قرأت في تراجم أصحابهم لرأيت أن للكثيرين منهم مؤلفات بالعشرات مذكورة بأسمائها، مع التأكيد على أنها فقدت، ولم يصل إلينا منها إلا كتاب أو كتابان على الأكثر.
ولا شك أن في ذلك خسارة كبيرة جدا للعلم المروي عنهم، والذي ربما في بعضه ما له علاقة بالعلم الحديث.

رابعا: ما حل بالمكتبات الإسلامية من عبث وبيع وحرق، كما هو الحال في مكتبة بغداد، ومكتبة قرطبة، ومكتبة الفاطميين…وغير ذلك من المكتبات الضخمة، التي كانت تضم ما لا يكاد يحصى كثرة من الكتب في شتى العلوم والفنون، حيث بيع بعضها، وأحرق بعضها، وأتلف بعضها، كل ذلك بسبب الجهل والحقد والعصبية، حتى فقدت الأمة الإسلامية كنوزا علمية وفكرية ثمينة جدا، ولا تقدر بثمن.
ولا شك أن ذلك ساهم إلى حد كبير جدا في ضياع تراث الكثيرين من العلماء والفلاسفة
والمفكرين…وربما في طليعة ذلك خسارة الكثير من تراث وفكر مدرسة أئمة أهل البيت عليهم السلام.
كل هذا وغيره يجب أن لا يغيب عن بالنا، قبل أن نأخذ من عدم وقوفنا على ذلك التراث العلمي دليلا على عدم وجوده، وإلى حد أن نقطع أنهم لم يصدر عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أي شيء من العلم إلا ما يتعلق بالعلوم الشرعية، وأن كل من يدعي غير ذلك فهو يستحمر الناس، ويستخف بعقولهم، ويضحك على ذقونهم!

وهذا كله على فرض أننا فعلا لم نقف على شيء من علمهم إلا فيما يتعلق بالعلوم الشرعية، وإلا فكل مطلع منصف يعلم يقينا أن الحقيقة ليست كذلك، بدليل تلك المصنفات الكثيرة، والمؤلفات الوفيرة المتعلقة بهذا الموضوع، كما أوضحنا ذلك في موضوعنا السابق: (أهل البيت والعلم الحديث)
وحقيقة لا أدري كيف نتغافل عن هذا التراث العلمي المنقول إلينا عنهم صلوات الله وسلامه عليهم في هذا المجال رغم ما نراه من إجماع أو شبه إجماع من قبل المترجمين لهم، والمؤرخين لحياتهم، والمدونين لسيرتهم، والمتكلمين عن علومهم من مختلف الطوائف عبر العصور، ورغم اعتراف الكثيرين حتى من غير المسلمين به قديما وحديثا، وتأكيدهم على أنهم سلام الله عليهم قد تناولوا هذه العلوم وتكلموا عنها، وأن ما ورد عنهم في ذلك قد استفاد منه العلماء، وكان له أثره في إثراء الحضارة العلمية للإنسان بشكل أو آخر، إلى حد أنه لا تكاد ترى من ينكر ذلك إلا قليلا، ونصرّ على أنه لم يصدر عنهم إلا ما يتعلق بالعلوم الشرعية؟!

فماذا نفعل بهذا التراث الذي بين أيدينا؟! هل نرميه في البحر (كما يقولون في الأمثال) أم نكذب به دون أن نثبت عدم صحته، ونؤكد بطلانه؟!
الحقيقة إن القضية هنا عكسية تماما، وإلا فليس القائلين بأن أئمة الهدى قد تكلموا في العلوم الحديثة هم المطالبون بالإثبات، لأن دليلهم قائم وماثل للعيان من خلال هذا التواتر فيما هو منقول عنهم عليهم السلام في هذا المجال، وليس بعد قيام الدليل دليلا، ولا حجة لمنكر بعد ثبوت الحجة، فعلى المنكر لذلك أن يدرس هذا التراث ويقوم بتفنيده وإثبات عدم صحته بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، وحينها فقط يحق له أن ينكر صدور ذلك منهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

أما إن كان الإنكار والتكذيب فقط بسبب استبعاد صدور ذلك منهم صلوات الله وسلامه عليهم، ففي منطق العقل والعلم والدين الاستبعاد ليس دليلا، ولا هو حجة في النقض والإثبات، ولا يصلح أن يكون مرجعا في بيان ما هو ممكن مما هو غير ممكن.
وأما إن كان هناك من يتصور أن إلمامهم بتلك العلوم مستحيل عقلا، فهو واهم جدا، لأن إمكان هذا الإلمام لا يخالف العقل، والعقل لا يحكم باستحالته، وإنما صاحب هذا الإشكال هو الذي لا يعرف المستحيلات العقلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى