أقلام

الغدير والناس

باقر الرستم

الإعلان الرسمي عن خليفة النبي (ص).

قال النبي (ص): (( من كنت مولاه فهذا علي مولاه)).

نصٌ لا يكاد شيعيٌ لا يحفظه، ولا يعرف مناسبته، ولا يتفاعل معه، ولكنه للأسف انحصر الاحتفاء به في البيت الشيعي، ولذلك أسباب مؤسفة أيضاً.

إلا أن توقف أمر إحياء هذه المناسبة واعتبارها عيداً على الشيعة حجّم من قيمتها ومكانتها، وتاريخيتها، فيما فرض موقف الأمويين والعباسيين، ومن كان على طريقتهم من إمامة علي والأئمة التعاطي الحذر والتقية مع المناسبة، لتظل قروناً في الإطار المناسكي.

وهذا يجعلنا نفتح ملف هذه المسألة من خلال قوله تعالى في المناسبة ذاتها تحديداً (( والله يعصمك من الناس))، إلا أنه يحسن بنا أن نستنطق الآية الشريفة في أهمية المناسبة، والقيام بواجبنا تجاهها، ومن ثم نتناول مسألة (( الناس)) في الآية الشريفة.

طبيعة المناسبة:

المناسبة لم تتناول مسائل عادية، أو دعوة للالتزام ببعض الأمور الأخلاقية، أو الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية، ولا بالملاحم، ولا وصف الجنات والأنهار فيها، ولا النار وما يخشى من الأعمال.. المناسبة تتناول تعييناً إلهياً لأمير المؤمنين (ع) إماماً وخليفة للمسلمين بعد رسول الله (ص)، وهذا لا يرضي قريشٍ كما قال القائل (( كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة))، وبالتالي فإن قريش حاضرة بكل ثقلها في الوصف القرآني للذين يريد الله أن يعصم نبيه منهم، كما في الآية الشريفة، وهم كما أسماهم بـ ((الناس)).

و((الناس)) لم تكن وقفاً على قريش، وإنما يدخل فيها كل من ذهب إلى رأيهم، والذين سعوا فيما بعد لإبعاد مقالة الحديث عن مقاصدها، وخاصة (( الخلافة)) وهي الجانب السياسي في المناسبة، ولتبقى في إطاره الديني، لتكون كالاحتفاء بأي مناسبة خاصة.

شخصية كأمير المؤمنين (ع) سيكون الاحتفاء بها.. في المولد.. في الهجرة.. في بدر.. في الخندق.. في شأن معركة تبوك وبأخوته للنبي، وبيوم الغدير.. يوم التنصيب،وما جري أيام رحيل النبي الاعظم.. وما بعد وفاة النبي (ص)، إلى استخلافه.. إلى شهادته.. كل كيانه مرتبط بذات الحجم مع كل الصور والأبعاد، وبالتالي فإن استلال خاصيتها وجاذبيتها لتبقى في الحدود التي لا تثير قارئاً ولا تكشف له تاريخاً هو تحجيم لتلك الشخصية ولتلك المناسبات.

إلا أن خصوصية غدير خم تتسم بكونه إعلاناً رسمياً لخلافة علي للنبي(ص)، يشهده الجميع (( ليبلغ الشاهد منكم الغائب.. ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد)).

وبالتالي لم يكن يسع أحدٌ أن يغير هذه المناسبة، أو أن يفرغها من محتواها، ويلبسها طابعاً ليس لها.

طبعاً لا ننسى أن أجواء التقية الصارمة التي فرضت على الشيعة في حقب زمنية متتالية أن يكون التعامل مع المناسبة مناسكياً، ومع ذلك فهي تختزن كل تلك المعاني التي نتحدث عنها طيلة ذلك التاريخ، وإلى الأبد.

وهذه الخصوصية لواقعة الغدير يدفع الفضول للتعرف عليها، ولماذا كل هذا التجاذب الشديد بشأنها؟!.. من الأمر بها؟!، إلى ما دار فيها؟!.. من الخطاب إلى المفردة؟!.. أبطال الواقعة؟!، ونخوض هنا شيئاً من ذلك.

الاختلاف في فهم الحديث، والتعاطي معه هو ذاته ما أشار إليه القرآن، في آية التبليغ بالأمر.

فالذين استجابوا لأمر التبليغ لم يحتاجوا لدليل، أو أوامر أخرى، وهم الذين آمنوا به، وظلوا يحتفلون به كونه نصاً على إمامة علي (ع) وولايته الدينية والسياسية، وأنه يمثل رسول الله (ص) في كل صور الولاية.

فيما هناك من لا يراه سوى دعوة لحب علي، كما دعا في موارد أخرى لحب أبي ذر وعمار، ولا يمت للولاية السياسية بصلة، وهنا تكمن أهمية المناسبة.. فالذين يعطون الغدير تلك الأهمية، متناغمون مع أهل البيت(ع)، والذين وردت الروايات الصحيحة والصريحة والمتواترة بوجوب اتباعهم، وأسمتهم بأهل البيت، وبالعترة، فيما هناك من خفف كثيراً من تلك الأهمية، ليكون الحديث في شأن صدوره، وفي بعض عباراته، وادعاء الزيادات فيه، وما يصح منه، وما لا يصح!!.

بالمحصلة يظهر لنا الحديث بأنه لا يعدو أن يكون كـ (( أنتم أعلم بأمور دنياكم))، وبالغ بعضهم في مهاجمة المؤمنين به، ليطعن في دينهم، ويرميهم بكل سوأة، مقتنصاً شاردة هنا أو هناك، ليكون المؤمنين الوحيدين به هم أكثر خلق الله بعداً عن فهمه، والامتثال لمفروضه.. بعدها لن يكون هناك من يرى علياً (( أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ)).

يدفعنا ذاك لقراءة النص.. من الأمر القرآني به.. حيث الأمر الإلهي به، إلى خطاب النبي في الغدير.

قال الله تعالى: (( يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك)) يحدد تلك القيمة الفائقة للمناسبة، والتكليف والتبليغ، والمعني بها.

فابتداؤه تعالى بـ(( يا أيها الرسول)) عبارة فريدة، لم تكن معهودة في النص القرآني.. يا أيها الرسول.. يعني: وما على الرسول إلا البلاغ المبين، لا تهتم بأي شيء.. لا تخشى أي شيء.. وأنتَ هنا في مقام التبليغ، ولستَ مخيراً في أن تبلغ أو لا تبلغ. وهنا: بلغ.. ماذا يبلغ؟!.. بلّغ ما أنزل إليك من ربك!!.

آياتٌ كثيرة حتى فيما يظهر من ظاهرها العتب تجد فيه الرفق، كما في قوله تعالى: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى.

يا أيها النبي لما تحرم ما أحل الله لك.

يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين.

وقد وردت أربعة عشر مرة في القرآن، فيما لم ترد (( يا أيها الرسول)) في القران إلا مرة واحدة، ما يؤكد جلالة ذلك الأمر وأهميته القصوى، خاصة وأنه أتبِعَ بقوله (( وإن لم تفعل فما بلغته رسالته))، وأعقب ذلك بـ(( والله يعصمك من الناس))، ليفسر أن النبي(ص) كان يخشى من موقف كالذي صدر من بعضهم عندما عزم على كتابة الكتاب، وأيضاً ما ظهر في خطبته في حجة الوداع.. وذلك عندما وصل إلى ذكر الأئمة أثار بعضهم اللغط، فقال الراوي: فقال كلمة لم أسمعها.

ويُفترض أن تلك العبارات كافية لشرح أهمية هذه القضية.. إلا أن قوله تعالى (( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)) يؤكد أن الأمر ذا أهمية شديدة وبالغة، ثم يقول (( والله يعصمك من الناس)) يشرح أن الناس هم الذين يمانعون النبي (ص)، وأن النبي (ص) يخشى على الرسالة كلها إذا ما بلغ بهذا الأمر، فيقول له تعالى ((والله يعصمك من الناس)).

فإذن.. كل عبارات الآية الشريفة ذات دلالات مكثفة في إبراز أهميتها، وقوله تعالى:(( والله يعصمك من الناس)) يشرح ويسمي أولئك الذين يرفضون تلك الأهمية.

فمن هم (( الناس)) الذين وعد الله نبيه منهم؟!.. قريش.. نعم.. قريش، ولكن هل قريش الكفار؟! أم قريش المسلمين؟!.

حديث النبي(ص) كان بعد انتهاء قريش الكفار، وقوتهم وصولتهم، فمن هم إذن؟!.

إنهم قريش المسلمين، فالذين أثاروا اللغط فقال كلمة لم يسمعها الراوي كانوا حجاجاً.

والذين حضروا الغدبر، وقال الله تعالى لنبيه (( والله يعصمك من الناس)) كانوا هم أنفسهم أولئك الحجاج!!.

في أجواء الحديث:

يأتي النبي (ص) في خطبته بالغدير، بعد الحمد والثناء على الله تعالى، وقد بدأ بالحديث عن المناسبة.. أراد أن يُشركهم، ويُشهدهم.. (( ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم))؟!.

قالوا: بلى..

لم يُرِد النبي (ص) أن تكون مجرد خطبة، وكأنها موعظة وترغيبٍ وترهيب كما قلنا.. يكون فيها النبي هو المتحدث، وذلك الجمع الغفير فقط يتلقى.. بل أرادهم أن يكونوا شهوداً فيشهدوا له.. ويأمنوه.. بمعنى: نعم أنت أولى بنا من أنفسهم، أو ليقولوا شيئاً إن كان هناك ما يريدون قوله.

فلما قالوا: اللهم نعم.

عندها قال: اللهم فاشهد.

إذن.. هم الآن لا خيار لهم، بعد أن أقروا له بالولاية على أنفسهم.. هو هنا يحقق معنى: (( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)).

ومعنى قوله تعالى (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)).

إذن هنا (( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ)).. فلا عذر لمعتذر، وقد أشهد الله على نفسه، وهذا كله يؤكد أن الغدير ليس اجتماع لتوكيد المحبة، ولا تلك الدعوى التي تفرِْغُ ذلك الاجتماع الكبير من فحواه ومحتواه وقيمته.

ومع أن دعوى أولئك ((الناس)) أن قول النبي (ص) جاء للتوكيد على محبة علي، إلا أن موقفهم ممن يبغض عليٍاً، ودفاعهم عنه يذهب بما بقي من تلك الدعوى، ليُفرْغَ نصُ الغدير والمناسبة كلها من قيمتها، ليجعلوك تنتهي إلى نتيجة أن ما قام به النبي (ص) لا تستطيع فهَه ولا معناه، ليؤكدوا بأنهم هم أولئك ((الناس)) الذين قال الله تعالى لنبيه بشأنهم (( والله يعصمك من الناس)).

ذلك الجهد الذي يبذل ليجعل من قول النبي (( من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاده، وانصر من نصره، واخذل من خذله)) لا مفروض له، ولا مقتضى له سوى أن يقول إن علياً يحبكم.. وليس أن تحبوا علياً!! يؤكد أنه لولا عصمة الله لنبيه من أولئك الناس لحدث ما كان يخشاه النبي(ص) ليأتي الأمر الإلهي تطميناً وتسكيناِ لنفسه.

وفي ذات الوقت هناك من يعيشون ذلك الخوف، وهناك من يعيش دور أولئك ((الناس)).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى