أقلام

مرآتي العاكسة

حليمة بن عطاء

كثيراً ما تزعجني الأصوات العالية، وتصيبني الحركة الكثيرة بالدوران، بل إنني في أحد الأيام تعبت بعض الشيء، وكل من كان يتحدث بجانبي كنت أرجوه أن يخفض صوته قليلاً، فأنا لا أكاد أرفع رأسي حتى أسقط على الوسادة مرة أخرى لشدة ما أصابني من الدوار! وريثما كنت أبحث عن رقم أحد الأطباء لأسأله عن علتي ما إذا كانت عضوية أم لا؟! اقترب مني أبي ليطمئن على صحتي، وبعدها أخذ جهاز التحكم بالتلفاز ليقلب القنوات باحثاً عن قناته المفضلة، ومعلناً عن رغبته ببعض الهدوء التام والتقليل من الضوضاء! فقد حان الوقت لمتابعة برنامجه المفضل، وأخذ الجميع يهمس ويشرئب عنقه للمتابعة الشائقة والماتعة لوالدي الحبيب، وما إن دخل أطفالنا الصغار للعب في غرفة الجلوس حتى أمرهم أبي بالهدوء! هذا المشهد الطريف جعل ذاكرتي تأخذني إلى طفولتي حيث رائحة أوراق الشاي الأسود والقهوة المصنوعة من يديَ أمي الحنونتين كل ليلة لأصدقاء أبي، فنساعدها أنا وأختي الكبرى بتحضير طبق الفاكهة وشيئاً من الحلويات التي تصنعها أمي مسبقاً أو بعض مما كان أبي يحضره معه بعد قدومه من العمل، وما أن يعلن أبي عن مجيء الضيوف حتى تبدأ الليلة الهامسة! فعلينا جميعاً الالتزام بالهدوء التام، حتى لا تصل أحاديثنا وأصواتنا إلى مسامع الضيوف!
وبعد مغادرتهم يحين وقت نوم أبي وراحته فنسعى إلى عدم إحداث الضوضاء، فحقاً كانت ترهقه الأصوات العالية وينزعج منها بشدة فليس بيده حيلة! فغداً يومه طويل.
وحين يحل الصباح وبعد قدوم أخواي الكبيران من مدرستيهما يأتيان في بعض الأيام ومعهما بعض أصدقائهما فيأمراننا بعدم اللعب بالخارج، وعدم رفع الصوت حتى لا تصل أصواتنا إلى مسامع أصدقائهما، ويالشدة غيرتهما، فما إن نبدأ بالحديث حتى نجد من يأتي إلينا ممتعضاً ليأمرنا بالهمس، فأصواتنا الأنثوية تقع على مسامعهم وهذا مالا يرغبان به، ولا ألومهما فغيرة الرجل إيمان كما قال أمير المؤمنين علي عليه وآله أفضل السلام.
أخذت أسترجع جميع المواقف التي كانت تُعَبِّر فيها ابنتي عن انزعاجها من الضوضاء والأصوات العالية، فحين كانت تبلغ من عمرها ثلاث سنوات وكانت نائمة سَمِعَت صوتاً عالياً فنهضت لتخبرني ” ماما إزعاج” وعادت مجددا لتغطي رأسها بغطاء السرير.
يا إلهي!
ما أشبه اليوم بالأمس، وكأن التاريخ يعيد نفسه!
إن أكثر ماكان يزعج أبي هي الأصوات العالية! وأنا الآن كذلك، فما أن تقوم ابنتي بتشغيل التلفاز حتى أطلب منها التقليل من علو الصوت، أو حين تلعب بمرح وتقفز هنا وهناك أطالبها بالهدوء قليلاً!
إن مشكلتي ليست مجرد مشكلة عضوية !إن أكبر مشاكلي هي اكتسابي لسلوك أبي الذي كان ينزعج من الأصوات العالية !والذي اكتسبه معي بعض إخوتي! واكتسبته مني ابنتي!
الآن فقط أدركت حجم المسئولية الملقاة على عاتقي.
فأنا مرآة عاكسة لأطفالي!
صَدَقُوا حين قالوا إن الفتى سر أبيه، و(حط القدرة على فمها تطلع البنت لأمها)، إننا أمام تربية أجيال لا تحمل جيناتنا الوراثية فقط، إنهم يكررون مانفعله نحن أمامهم، يشاهدون ويتأملون ويراقبون عن كثب مانحب ومانكره، مايبهجنا ومايحزننا ومايغضبنا ومايقلقنا، حتى طريقتنا في تناول الطعام أو في المشي يقومون بتقليدها!
إنهم مرآتنا، فلنحسن صورتنا المنعكسة فيهم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى