أقلام

قراءة في بيان المرجعيّة العُليا حول لقاء البابا

السيد زكريا الحاجي

كانت لزيارة بابا الفاتيكان للمرجعيّة الشّيعيّة العُليا بنحو خاص صدى عالميّ، وأصبح الحدث الأبرز في زيارته للعراق.

وفي هذا اللقاء التاريخي المغلق والذي استمرّ قرابة السّاعة -مع ما تستغرقه الترجمة-، من الطبيعي أن لا يكون البيان الصّادر، قد سرد كلّ تفاصيل الحديث، وإنّما كان خلاصة النّقاط والأولويّات التي تريد المرجعيّة ايصالها للبابا والمجتمع العالميّ.

انقسم الخطاب المرجعيّ في السّلام والحقوق، إلى ثلاثة دوائر:

١- الدّائرة الكبرى العالميّة: فكان الخطاب المرجعيّ مراعياً لغرض الزّيارة، محقّقاً أهدافها، دون أن يؤطّرها في العلاقات الثّنائيّة بين الدّيانتين، بل أخذ بسياق الزّيارة في العلاقات الإنسانيّة بمختلف مشاربها، مستوعباً تعدّد الأديان والتوجّهات الفكريّة.

من الطبيعي أن يكون خطاب التعايش السّلمي، يسلّط الضّوء على المشتركات، مع مراعاة الحدود التي تقتضيها المسافة بين مبادئ الأطراف، فالخطاب الوحدويّ بين المسلمين في نطاق الدّين الواحد، يقتضي لوناً يختلف عنه بين الأديان -أو الأعمّ من ذلك-، ففي الوقت الذي يؤكّد فيه على دور الإيمان -كعنصر مشترك- في علاج التحدّيات الكبرى، والمشاكل التي يواجهها الإنسان المعاصر، والتأكيد على القيم السّامية، وهي المشتركات الفطريّة لدى الإنسانيّة، كان ذلك في سياق مراعاة حقوق مختلف التوجّهات الفكريّة، وما تعانيه مختلف البلدان من ظلم، وقهر، وفقر، مستنكراً الاضطهاد الدّيني والفكري، وغياب العدالة الإجتماعيّة، وما تتعرّض له الحرّيات الأساسيّة من كبت، ويبدو أن مفردة “الأساسيّة” لم تكن من فضل الكلام، بل لعلّها اشارة مقصودة: بأنّه ليس كلّ سلوك يمكن أن يتقبّله المجتمع الإنساني تحت غطاء الحريّة.

٢- الدّائرة الوسطى، وهي منطقة الشّرق الأوسط: كان لدول المنطقة وشعوبها حصّة من العناية في الخطاب المرجعي، والذي أكّد فيه على أهمّ سماتها، وهي: الحروب، وأعمال العنف، والحصار الاقتصادي، وعمليّات التهجير.. وغيرها، واللبيب بالاشارة يفهم، فابسط متابع لأحداث المنطقة يمنكه اسقاط هذه المفردات على الدّول المعنيّة، ويتلخّيص ذلك في ما يعرف بالّلاءات السّبع.

إلا أنّ المرجعيّة بذكائها وضعت اصبعها على فلسطين بنحو خاص وصريح، من دون باقي الدّول، لأنّها تُدرك أن توتر المنطقة ينحدر من السّياسة الصّهيونيّة واغتصابها للأراضي الفلسطينيّة، واعتبارها السّبب الأوّل لأغلب مشاكل المنطقة.

كانت المرجعيّة بارعة في تصويب أهدافها، بطريقة جعلت من خطابها صالح بأن يسري وينتشر في المنطقة، محقّقاً رسالته دون أن تعترضه خلافات سياسات دول المنطقة.

٣- الدّائرة الصّغرى، وهي العراق: باعتبارها البلد المستضيف، والمنطقة المقصودة بزيارة البابا، ومحطّ أنظار الإعلام، بعد أن أدّى حق الشّعب بالثّناء عليه واستعراض تاريخه ومجده، أشارت المرجعيّة إلى مواقفها مع المسيحيين وباقي الطوائف والأقليّات، دون أن تفرّق بين طائفة أو ديانة، مذكرة بأنّها بادرت العمل بالمساواة الوطنيّة قبل رفع الشّعارات، فكانت محن العراق الشّاهد على تطبيق المبادئ، وأنّ الخطاب المرجعيّ إيمان حقيقيّ يتجسّد في سيرتها العمليّة.

وكما هو واضح جاء خطاب المرجعيّة في الدّوائر الثّلاث، ضمن الإطار المدني المعترف به دوليّاً، في مراعاة المبادئ والأسس العامّة للدّولة المدنيّة، لا سيّما أنّ خطابها كان متوجّها لمختلف سياسات بلدان العالم.

من ملامح الحكمة في الخطاب، أنّ المرجعيّة لم تستغلّ هذه الزّيارة لتُملي تحفّظاتها على بعض التصرّفات المُسيئة لشخص الرّسول الأعظم “ص” وللدّين الإسلامي، بل كانت حريصة أن تجعل من خطابها خطاباً عامّاً تأسيسيّاً، يمكن أن ينطلق منه مستقبلاً ما يمنع مثل هذه الاستفزازات، فبهذا الخطاب يمكن أن ترسي قواعد التعايش السّلمي، فلم تتحدّث بهموم الشّخصيّة الإسلاميّة، بل بلسان الإنسانيّة.

هذا بالإضافة، فيما لو فتحت المرجعيّة ملفّ الإساءة، لكان اللقاء تحوّل إلى ما يشبه السّجال الكلامي، ولأصبحت مادّة دسمة للإعلام، فكما أنّ المسلمين يحملون في جعبتهم تحفّظات على بعض الدّول ذات الأغلبيّة المسيحيّة، كذلك العكس بالنّسبة للمسيحيين، ومن ثمّ تشتعل السّاحة بالجدل، وتضيع أهداف اللقاء، فكان الخطاب متزناً، مراعياً للذّوق والآداب الدبلوماسيّة.

سلّط السّيد السّيستاني على نقطة مهمّة، وهي دور الزّعامات الدّينيّة والرّوحيّة الكبرى، والتي لها بطبيعة الحال جمهورها الواسع، ومن ثمّ فإنّ كلمتها لها ثقلها وتأثيرها على المشهد العام، ومن هنا كانت الدّعوة والمطالبة بتضافر الجهود، والقيام بدورها الرّئيسي الإصلاحي، وحثّ الأطراف المعنيّة، وهو ما من شأنه أن يحدّ من المطامع السّياسيّة، وتوسّع مصالحها الذّاتيّة، على حساب حقوق الشّعوب، أيّ أنّ لهذه الزّعامات القدرة -فيما إذا تناغمت أهدافها- على الحدّ من المآسي.

واقعاً استطاعت المرجعيّة -كعادتها- أن تحافظ على دورها ومركزيّتها بحكمة لطالما عُرفت به، وهي الكلمة التي أقرّتها مختلف الرّموز المُنصفة.

وإن كانت زيارة البابا محطّ الأنظار، لكن خطاب المرجعيّة كان هو ما اشرأبّت إليه الأعناق، والصّوت الذي أنصتت إليه الأسماع، وكانت للمرجعيّة -الصّامتة- ختام الكلام، دون أن يجد البابا حاجة إلى التعليق، أو اصدار بيان يتدارك فيه خطاب المرجعيّة، بل اكتفى بالثّناء وإبداء الإعجاب بالحكمة وحلم السّيد السّيستاني، والتأكيد على مضمون كلام المرجعيّة، ولهذا كانت صياغة البيان محكمة وحكيمة.

وختاماً أبدى الخطاب المرجعيّ، السّلامة والسّعادة لكلّ الأديان ومختلف البشريّة، وهذا مقتضى الإيمان الذي يمثّل اعتقاد المرجعيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى