أقلام

المجتمع العلماني- الحقيقة والخصائص (2)

 

محفوظ زويد*

من أهم الميادين والأرضيات التي سعت العلمانية منذ بواكير ظهورها وحتى الآن للسيطرة عليها وامتلاكها هي ساحة المجتمع الإنساني.
ومن الممكن اعتبار العلمانية رؤية تنزع إلى إقصاء الدين عن الحياة البشرية بكل أبعادها العلمية والعملية والغائــية. وإنكار الاعتقاد بالماورائيات والغيبيات، وتغليب القيم المادية الدنيوية في هذا العالم على الوعود الغيبية بعالم آخر.

وتعطي العلمانية أهمية بالغة للسعي إلى سد احتياجات البشرية من خلال العلوم التجريبية، وإعطاء الأولوية لعالم المادة والعقل الذاتي الذرائعي، وزيادة الاعتماد على المعرفة الحسابية والبرغماتية، وتمدد الروح الرأسمالية إلى بنية الوعي وجميع فضاءات الحياة الخاصة والعامة للإنسان الحديث.

ويعتــبر (ماكس فيبر) العقلانية أهم مميزات المجتمع العلماني الحديث.
يقول: “الإنسان الحديث متنكب بطبعه من كل ما هو مقدس ومتعال، وهو منغمس في عالمه الدنيوي المحايث، ولا يرى في المواعظ الدينية والوعود الغيبية سوى شاغل له عن شروط النجاح في هذا العالم ….”(1).

ويقول كذلك: “فإن المصداق الأهم لعقلنة المعرفة هو العلم الحديث، وحلول التفاسير العلمية والعقلية محل التفاسير الأسطورية، ويعبر عن هذا السنخ من العقلنة بـ (مكافحة السحر) ويرى أن هذا التعبير هو المعنى الأصلي للعقلنة” (2).

وتعتبر العلمانية الأساس والأصل للحضارة الحديثة، وجوهر الحداثة الغربية. وهي تعيش صراعا مستمرا مع الدين، وتسعى لإقصائه حتى لا يكون مرجعا للحياة الإنسانية، من خلال القراءة الناعمة، أو القراءة المتشددة التي تدفع نحو الإلحاد واللا أدرية كما يرتئي ذلك (تشارلز برادلوف).

وتهدف من ذلك إلى انفراد الأنظمة الوضعية بإدارة حياة الإنسان، وتنظيم كل شؤونه الاجتماعية وغيرها، وهيمنة العقل الذرائعي على الحياة الاجتماعية، لتصل العقلانية إلى أعمق طبقات الشخصية الفردية.
وعبر هذه الأسطر المختزلة والمقتضبة نزمع الإشارة إلى بعض ركائز وخصائص النموذج الاجتماعي للرؤية والفكر العلماني.

الركائز والخصائص:

أولا/ الاعتماد على الصناعة والتقنية:
من خصائص المجتمع العلماني الاعتماد على الصناعة والتقنية وإقصاء القيم والمبادئ الإنسانية والروحية والإيمانية من المجتمع البشري. وهذا من ثمار هيمنة العقلانية الذرائعية، ولذا تنامت في النظام الحديث النزعة الصناعية التي اربكت مختلف البنى الاجتماعية والاقتصادية السائدة.

حيث يرى ” كريشنا كومار” أن الخطوة الأولى في تحديث المجتمع هو جعله مجتمعاً صناعيا. وهذا يستدعي تحولات واسعة، في الحياة المدنية، وفي نطاق الأسرة والعائلة، وفي القيم بشكل عام، وفي الرؤى الفكرية (3).

إن الحداثة مقرونة بطغيان الحقل الاقتصادي والتحكم البيروقراطي على بقية مناحي الحياة الاجتماعية، إلى جانب شيوع قيم الربح والمردودية العملية على حساب القيم الأخرى، علمية كانت أم فنية أم تشريعية أم دينية. وهذا ما يجعل الحداثة متحكمة في شروط الوجود الإنساني، ويسمح للعقلنة بشد وثاق الإنسان، وحبس أنفاسه (4).

ويرى (دانيال بيل) أن المجتمعات البشرية تتوزع بحسب التعامل مع الطبيعة إلى ثلاثة أطوار:
1 / ما قبل الصناعية  2 / حين الصناعية  3 / ما بعد الصناعية

ويرى كذلك أن كل واحدة من هذه الرؤى الكونية الثلاث مصاحبة لنوع من الهوية، وهي ثلاث:
1 / الدين            2 / العمل             3 / الثقافة

ويرى (بيل) أن الدين هو الشكل التقليدي لهذه العلقة، بمعنى أن الدين يمارس دوراً متعالياً على العرف في المجتمع ما قبل الصناعي، من ناحية فهم الإنسان لنفسه ومحيطه وتاريخه.
وفيما بعد تحول الدين بشكل تدريجي إلى عقيدة شخصية. وتصاعدت أهمية العمل بدل الدين، باعتباره الواجب والتكليف في المجتمع الصناعي، وهو ينم عن قيمة الإنسان ونجاحه سعادته. ومع حركة الزمن حلّت الثقافة والعمل مكان الدين لدى الإنسان الحديث (5).

ويقول (ويل ديورانت):
“تغيير المؤسسة الدينية إلى مؤسسة دنيوية كان نتيجة الثورة الصناعية، إذ بعد ذلك أحيلت عملية التربية والتعليم التي كانت يوماً بيد الدين إلى أيدي أناس لا يؤمنون بالدين ولا يحترمونه …… ” (6)

وكل ذلك ساق المجتمع إلى العلمانية من طريقين:
1 / خلق روح الاستغناء عند الإنسان.
حيث طرد الدين والقيم من ميدان الحياة البشرية بعد التطور الصناعي.

2 / إشاعة الروح الاستهلاكية
يذهب البعض إلى أن النزعة الاستهلاكية واللذة لدى الغربيين، هي أهم عوامل زعزعة أركان الحياة الدينية التقليدية على مستوى الوعي والعادات. (7)

ثانيا/ عقلنة النظام الإداري:

ذكرنا سابقا أن من مميزات المجتمع الحديث الاعتماد على الأصول العقلانية في إدارة المجتمع، وهي سمة رئيسية للبيروقراطية. لأن الانضباط في مفهوم البيروقراطية هو العقلنة المستمرة، والتعليم المنهجي، والتنفيذ الدقيق للأوامر، وهذا يتعارض مع القداسة الفردية والحالة الطبقية. (8)
وعليه يحل الانضباط بمفهوم البيروقراطية محل التّقوى والورع والحماس المعنوي أو الطاعة أو العبادة.

ويعتبر عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) أن البيروقراطية أكفأ المؤسسات الإدارية الواسعة التي اخترعها الإنسان الحديث، ولا يوجد لها بديل (9).

ثالثا/ تذويب المكوّن الديني:

إن العمل بنظام البيروقراطية نتيجته تزلزل المنزلة الاجتماعية لرجال الدين وهبوطها. وهذا ما حصل في البنى الجديدة للمجتمع الحديث. ولازم ذلك تغييب الدين ومؤسساته من عالم الوعي على نحو منهجي، في مختلف مناحي المجتمع ومؤسساته الحيوية، من اقتصاد وتشريع وفن وإدارة. وبذلك ينفك ما تبقى من عرى الارتباط بين الدين والمجتمع، وتقل الأدوار الموكلة إلى الدين والمرجوة منه، وكذلك حاجة الناس والمجتمع إلى الارتباط به. ومن ثمّ تنتهي مرجعيته عندهم. وبهذا تكون العلمانية قد بسطت يدها بشكل كامل وسيطرت على المجتمع.

“فالعلمانية -كما يمكن فهمها من مجمل أعمال (فيبر)- لا تختصر في كونها تعبيراً عن تطور الوعي الفكري الفلسفي بقدر ماهي أحد إفرازات البنى الاجتماعية الحديثة. التي تتجه صعدا نحو مزيد من الدهرية، وتهميش الحضور الديني إلى أضيق نطاق
ممكن” (10).

 

رابعا/ نمو العــلمانية الفردية:

من المعلوم ان العلمانية تقتصر رؤيتها على عالم المادة والحس، فلا تؤمن بما وراء هذا العالم المادي من الغيبيات، ولا تعطي قيمة لما هو غيبي ورائي. وبذلك لا تكون ملزمة بقيود لغير مرجعيتها الذاتية والداخلية.
وقتئذٍ تنمو النزعة الدنيوية، وتتغير الرؤية الكونية عند الإنسان الحداثي، وبذلك يسعى للسيطرة على عالم الطبيعة على أساس الدوافع الشخصية الذاتية وطلب اللذة.

إن الحداثة تستلزم حتمية طغيان الجانب الاقتصادي والبيروقراطي على مناحي الحياة الاجتماعية، وشيوع قيم الربح والبرغماتية على حساب القيم الأخرى، وهذا يجعل الحداثة قرينة للتحكم في شروط الوجود البشري.

وينتج عن ذلك ما يأتي:

1 / نمو النزعة المادية الدنيوية.
2 / تغير علاقة الإنسان بالمجتمع وتطلعاته نحو الآخر، ونمو حب الذات.

وبذلك تتجلى العلمنة الفردية بصور وهيئات متعددة، وهي:
أ / دنيوية الأفكار ب / دنيوية الدوافع والغايات
ج / علمنة الرؤية د / تغيير الســـلوك. ويتجلى ذلك في أمرين:

الأول: التقاعس عن الالتزام بالأحكام الدينية.
الثاني: عدم الاكتراث لأداء التكالي التي يتوقعها الدين من الإنسان بسبب زوال الاعتقاد بصحتها وتأثيرها.

خامسا/ علمنة العلاقات الاجتماعية: 

ذكرنا في بداية المقال أن الميدان الأساس الذي تسعى إليه العلمانية هو المجتمع الإنساني، وأن العلاقات الاجتماعية هي الميدان الآخر الذي تتحرك عليه العلمانية، وهو تابع لعلمنة الفرد.
فالعلاقات الاجتماعية في الرؤية العلمانية قائمة على المصالح والفوائد الفردية والشخصية، ويراد من علمنة العلاقات الاجتماعية تهميش دور الدين في بعده الاجتماعي للإنسان.

ويرتئي (ماكس فيبر) أن من نتائج تغلغل العقلانية في العلاقات الاجتماعية تحول هذه العلاقات إلى ذرائعية، فالغاية من تلك الانتماءات هو طلب المنفعة والربح والعقلانية (11).

* أستاذ الفلسفة والعقليات في الحوزة العلمية

_____________________________________

هوامش:

(1) آراء جديدة في العلمانية والدين / ص 87 / رفيق عبدالسلام

(2) الدين والسلطة والمجتمع ص 161 ــ 162

(3) بتصرف: التحول الحداثي والتطور الصناعي / ص 211 ــ 225

(4) آراء جديدة في العلمانية والدين / ص 83 / رفيق عبدالسلام

(5)  الدين والثقافة في المجتمع ما بعد الصناعي / ص 166

(6) مدخل إلى تاريخ الحضارة / ص 211

(7) ما بعد الحداثة والعولمة / 203

(8) الدين والسلطة والمجتمع / ص 277/ ماكس فيبر

(9) الأصول العامة للتكامل في المجتمع / ص 290

(10) آراء جديدة في العلمانية والدين / ص 85 / رفيق عبد السلام

(11) المراحل الأساسية لمسار الأفكار في علم الاجتماع / ص 626

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى