أقلام

الشيخ الملا داوود الكعبي (فارس المنبر)

 

عبدالله البحراني

يعد الملا داوود الكعبي أحد فرسان المنبر الحسيني اللامعين في منطقة الخليج العربي. وكان المرجع الديني آية الله السيد ناصر السيد هاشم السلمان يؤكد على تسميته (بالشيخ داوود) لعلمه وسعة اطلاعه.

تعريف بشخصيته
الشيخ ملا داوود بن سليمان بن محمد بن عبدالله بن شهاب، ينتهي نسبه إلى كعب بن عامر, ويعرف في المجتمع بــ (الملا داوود الكعبي). ولد في عام 1313هجري بقرية الفلاحية (في شمال مدينة المحمرة), وفيها ترعرع. أخذ مبادى العربية لدى أسد الله البهبهاني. وفي مجال الخطابة تدرب لدى الملا علي العقيلي. وفي الأحساء لازم الشيخ محمد بن صالح السعد لسنوات طويلة ودرس لديه البلاغة والعربية. وأقام في دولة البحرين لسنوات للقراءة الحسينية. وبعد سنوات عاد إلى الأحساء (موطن أجداده آل الشهاب), واستقر بها حتى الأشهر الأخيرة من حياته.

اقترن (رحمه الله) بأربع من النساء. وهن: المرحومة فاطمة بنت الحاج حسين الشهاب, وأنجب منها الحاج عبد المجيد، وابنة واحدة هي أم عبدالله بن الحاج علي عبدالله البحراني (المتوفية عام 1418 هــ). والزوجة الثانية: المرحومة فاطمة بنت الحاج أحمد الحداد، وأنجب منها الحاج عبدالله (بوسعيد)، والمرحوم عبد، وكريمتان (أم السيد محمد اليوسف، وأم ناصر الحمدان). وزوجته الثالثة: المرحومة ليلى بنت الملا علي البراهيم, وله منها ثلاث كريمات. والرابعة: المرحومة آمنة بنت أحمد الحمدان، وأنجب منها الحاج (محمد جميل)، وراضي، والمرحوم معتوق, وأربع كريمات. وللشيخ عدد كبير من الأحفاد والأسباط منتشرون في المنطقة ويعرفون (بآل الشهاب).

فارس المنبر
عرف بتعدد مواهبه وقدراته. خطيبٌ حسيني من الرعيل الأول. وشاعرٌ وباحثٌ مجد. صاحبُ خطٍ جميل. ولقد سَخّرَ تلك المواهب وبفاعلية لصالح الخير. وكانت رسالته في المجتمع واضحة, تمثلت في نشـر تعاليم وأخلاق أهل البيت (عليهم السلام). وصفه السيد داخل حسن بقوله: (لقد امتدت شهرته في الخليج العربي, فتجول خطيباً في أقطارها, كما وجهت إليه الدعوات لارتقاء منابرها وتعظيم شعائرها. ويعد من مشاهير الخطباء، أمثال: الملا أحمد بن رمل, والملا عطية الجمري، والملا عبد الحميد الهلالي). كما وصفه الأستاذ علي المهدي (دولة الكويت) بقوله: (كان عملاقاً في أدائه, يملأ المنبر حديثاً ونعياً بأسلوبه المميز, وعلى مستوى عال من الوعي والإدراك. وكان يتفرد بطريقته الخاصة في إدارة المأتم وشد الجماهير المؤمنة إليه وإلى المنبر).

وفي مجال الخطابة الحسينية, أسس مدرسة ونهجاً خاصاً به. وله إضافات في النعي الحسيني, حيث ينسب له طور جديد يعرف (بالداووديات), وهي طريقة في النعي معروفة في الخليج. وقرأ في مسقط (عمان حالياً), ودولة البحرين, والقطيف, والعراق, وأفغانستان.

كانت له شعبية خاصة في دولة البحرين, لتبحره في التفاسير والسيرة والتاريخ. فقد قرأ في حسينية مدن. وكان يحصل على أكبر أجر في تلك الفترة (ألف ومائتين روبية). وهو أعلى مبلغ يتسلمه خطيب بدولة البحرين (في فترة الستينات الميلادية).

وفي الأحساء كانت مجالسه في الحسينية الهاشمية (السادة), وأيضاً في المسجد الجامع بعد صلاة المغرب. وطالما قرأ في جعفرية السياسب لسنوات طويلة. وقرأ في الحسينية الجعفرية بالشعبة في الفترة الصباحية. وكذلك في حسينية آل بوخمسين, وفي حسينية البن عامر (في وسط الهفوف).

وكان يشجع من يتوسم فيهم القدرة على خدمة سيد الشهداء. والنتيجة أن تخرج من تحت منبره نخبة من خدام المنبر. أمثال: الملاّ أحمد بن عبدالحميد العوض، والحاج عيسـى بن عبدالله حسن البشـر، والملا حجي العمام المهنا، والملاّ محمد جواد بن الشيخ كاظم المطر، والملاّ محمد بن عبد الوهاب الرمضان، والملا حسين الملا علي البراهيم. والملا يوسف بن علي العلوان, والملا أحمد البو جويسم, والملا أحمد القطيفي, والملا عبدالله بن صالح الطويل, والملا موسى بن حسن الرمضان. وكان لأبنائه (الحاج عبدالله، والحاج عبدالمجيد) محاولات للتدرب على يديه ولكنهم لم يواصلوا الطريق.

الباحث الأديب
وهناك جانب مهم في حياته, وهو شغفه وحبه للقراءة ومطالعة الكتب. ونجح في أن يوزع وقته بين القراءة والبحث والتأليف. والنتيجة أنه ترك لنا حصيلة علمية من المؤلفات. طبع منها العديد من الكتب. مثل (الدروع الداوودية, والبلوى في بنات حواء, والنصائح الداودية, ونزهة الناظر وفرحة الخاطر). هذ بالإضافة لعدد من المخطوطات.

وعن شعره (رحمه الله) كتب الشيخ أحمد بن محمد البراهيم الأحسائي: (ولشيخنا الملا داوود ديوان, ضم ما يقارب المائة والعشـرين قصيدة. غاية في الروعة، وعلى مستوى عالٍ من الإجادة. وكما يظهر من نفسه أنه قد حذا حذو الشعراء الأوائل. فنظم المدائح والمراثي لأهل البيت عليهم السلام, وكما قال أحد الأدباء في وصف شعر الشيخ داوود (يكاد يبكي قبل أن يبكي الناس).

وكان ينظم الشعر العامي والأراجيز, وله قصيدة مشهورة بالعامية تعرف بعنوان(تف على حظي ونصيبي). وفي هذه القصيدة يصور لنا (معاناته) مع أحد الجيران. كذلك, هناك قصيدة عامية للملا موسى بن حسن آل رمضان. عندما ضُربَ الملا داوود (بمدية) في القيصرية بوسط الهفوف. في محاولة يبدو أنها لتصفيته. يقول فيها:

خيمة الإسلام طاح عامودها
يوم في السوق انچتل داوودها

اليوم في السوق اجتل بدر السما
وتمت الأكوان كلها مظلمة

نشاطه الاجتماعي
وكان (رحمه الله) منجذباً لعمل الخيرات. وله في البذل والعطاء محطات ومواقف جديرة بالتوثيق. من أبرزها دوره في إعمار الحسينية الجعفرية بالسياسب. والتي كان أصلُها أسهم من عدة عوائل في الحي، ولكن الأساس كان نصيب المرحومة (آمنة بنت المرحوم محمد الحاجي). أوقفته لخدمة سيد الشهداء. وكانت تعرفُ سابقاً باسم (الحسينية القديمة). وفي إحدى السنوات طُلِبَ من الشيخ داوود القراءة فيها، فلاحظ أنها متهالكة وتحتاج للإعمار. وفي عام 1372 هجري, تبنى فكرة إعادة بناء الحسينية الجعفرية بالسياسب. حيث تم توسعتها بضم بعض البيوت المجاورة لها. وكان تمويل هذا (المشروع الحسيني العملاق) من قبل المؤمنين عامة وأهل حي السياسب خاصة. وكان البناء بالطريقة التقليدية القديمة. بالأخشاب (الجندل) والجص والصخر. وبعد اكتمالها أطلق عليها الملا داوود (الحسينية الجعفرية). وله علاقة خاصة بهذه الحسينية, فكان يقرأ فيها طوال العام، ولأكثر من خمس عشـرة سنة. أما في شهر محرم الحرام، فله فيها ثلاثة مجالس (في الصباح، وفي العصـر وفي المساء).

ومن أفكاره الرائدة, أنه وراء تأسيس أول (مغيسل) للموتى في حي الشعبة بالمبرز, في مزرعة وقف الحاج محمد بن عبدالله البحراني (مستورة). وذلك في حياة آية الله السيد ناصر السيد هاشم السلمان. وذلك قبل تأسيس مغيسل أم الحصحص.

تهيئه للقاء ربه

في عام 1392 هجري سافر إلى العراق. وهناك قضـى شهري (محرم وصفر) في تلك الرحاب الطاهرة. وعاد إلى البلاد ولكنه (وفي نفس العام) عاد إلى العراق لشعوره بقرب لقاء ربه. وفي مدينة كربلاء خارت قوى (فارس المنبر) وأدخل للمستشفى. وسافر ابنه الحاج (محمد جميل) إلى العراق ليتابع حالة والده.

وينقل لنا الحاج (محمد جميل) هذا الحوار, والذي دار بينه وبين والده في المستشفى بمدينة كربلاء المقدسة.
الابن: والدي, الأطباء يقولون أن حالتك حرجة, ولا بد من نقلك إلى البلاد (السعودية) للعلاج.
الملا داوود: بني. أنا الآن (أسير بين يديك)، وأطلب منك أن تنقلني إلى النجف الأشرف حيث جوار الأمير.
الابن: ولكن العلاج (في البلاد) أفضل!
الملا داوود: بُني, سوف يكون خصمكَ (الإمام علي) يوم القيامة إذا نقلتني إلى غير النجف. إنها أمنيتي. وأنا القائل فيه:

كيف السلو وقلب الدين قد صٌدعا
والروح ينعاه ليلاً قط ما هجـــعا

كيــف السلو بعيداً عن أبي حسـنٍ
والحـزن فل عظامي حال ما وقعا

وعندها استشار الحاج (محمد جميل) الأطباء عن حالة والده, قيل له أن حالته (حرجة), ومن الأفضل أن يقضي أيامه الأخيرة بجوار أهله وذويه في بيته. ونُقِلَ إلى مدينة النجف.

نهاية المطاف

وفي جوار إمام المتقين فاضت روحه الطاهرة. وذلك في ليلة الجمعة, الموافق الثامن من شعبان عام 1392 هجري. ونقل إلى مدينة كربلاء المقدسة. حيث صلى عليه العلامة الشيخ المرحوم محمد ابن الشيخ محمد علي الجبران (رحمه الله). ثم نقل إلى النجف الأشرف, وشيعه لفيف من العلماء والمؤمنين ومنهم: العلامة السيد محمد علي السيد هاشم العلي، والعلامة السيد علي بن المقدس السيد ناصر السلمان، والحاج حسين أحمد المحمد علي, والحاج أحمد حسن الميدان, والحاج علي أحمد الميدان، وابنه الحاج محمد جميل (بوعادل). ودفن في الغري بجوار الأمير (عليه السلام), إنفاذاً لوصيته. وأقيمت له مجالس العزاء في العراق، والأحساء، والبحرين.

وقفة مع أفكاره

وكان الشيخ الملا داوود الكعبي شجاعاً في طرح رأيه, لا يهاب الرأي العام. ففي السابع والعشرين من ربيع الأوّل في عام 1390 هجري, فقد العالم الإسلامي المرجع الأكبر لعموم الشيعة المرجع الديني آية الله السيّد محسن الحكيم. وفي هذه المناسبة المهيبة اعتلى الملا داوود المنبر في الحسينية الهاشمية (السادة) بالمبرز. وفي ذلك الحشد الكبير. انتقد -كعادته وبقوة- بعض القضايا الحساسة والممارسات الاجتماعية المنتشـرة، والتي لا تتفق مع الشريعة الغراء, مثل: لبس (الثياب القصيرة للنساء)، وفقدان الغيرة والحمية في نفوس المجتمع. وهذه المحاضرة الوحيدة والتي تم تسجليها له. وفي ذلك اليوم, تحدث وبحرقة مستنكراً على المجتمع التهاون في موضوع المرأة وعفافها. ومن وصاياه المشهورة: (علموهن سورة النور, لما فيها من الوعيد، ولا تعلموهن سورة يوسف. ولا تسكنوهن الغرف لأن الغرف كاشفات).

وعرف عنه معارضته للمدارس النظامية (الحكومية). وكان ينادي بعدم إلحاق الأولاد والبنات بهذه المدارس. وكان يصدع بهذا الرأي من على المنبر. ناقداً وبعنف من يلحق أبناءه بالمدارس. وكانت مواقفه من الأجهزة الحديثة (الراديو والتلفزيون) لا تقل حدة عن معارضته عن المدارس النظامية. وكان يهجو وبشعره العامي المحلقين حول جهاز الراديو لسماعه, ويعده من أعمال المنكر. بل لم يكن يسمح (ولفترة طويلة) بتسجيل محاضراته أو استخدام الميكرفون (مكبر الصوت) في أثناء القراءة. وهذا هو السبب الرئيس لعدم وجود محاضرات مسجلة له. سوى شريط واحد, بمناسبة وفاة السيد الحكيم (رحمه الله). علماً أنه من أوائل من استخدم الكهرباء والهاتف في منزله.

وكيف لنا أن نوفق بين هذا, وبين أنه مطلع على ثقافات وتجارب الشعوب الأخرى. وكان كثير التجارب والسفر. فهل كان لبقائه في دولة البحرين في مقتبل حياته, وملاحظته لتأثير المدنية والانفتاح دوراً في ذلك. أو أن ذلك كان نتيجة (لذكائهالحاد), وقدرته على رؤية النتائج مبكراً. وكيف أن المخاطر البعيدة المدى حاضرة في مخيلته.

والآن وقد أصبح هذا الوضع جزءاً من التاريخ نضعه للدراسة. وهذا جانبٌ مهم يحتاج إلى الكثير من الاهتمام. وليس القصد (محاكمة التاريخ وأهله). بل علينا أن نحترم توجهات الآخرين وحتى لو اختلفنا معهم في الرأي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى