أقلام

بيوت أم مستودعات؟

هاشم الصالح

كل إنسان يحلم ببيته الخاص به،وهذا من حقه، وكلنا نريد هذا البيت واسعا، فمن سعادة الإنسان أن يكون له بيتاً واسعاً. فهناك حديث نبوي يؤكد هذا المعنى:
( مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ : الْجَارُ الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ )

ولكن البيت الواسع شيء والمستودعات شيء آخر.

تتصارع في الإنسان قوتان، حاجاته ورغباته، (Wishes & Needs)، ولطالما كانت الغلبة للرغبات على حساب الحاجات. فنحن نأكل أكثر مما نحتاج فقط لأننا نرغب في ذلك ،(ولا ننسى وخز الجوع الكاذب الذي يحول رغبتنا في الطعام إلى مجاعة حقيقية). أنا أحب المندي وهذا يعطيني الحق أن أكل ضعف ما أحتاج حتى ولو احتجت علي بطني وامعائي فأنا ببساطة أحب المندي وهذا يكفي.

والرغبات هي الرغبات لا تعرف صاحبها ولا يهمها أن كانت ضارة للإنسان. ولكن يجب ان تكون الحاجة أولا  والرغبة ثانيا  وبشرط، أن لا نتجاوز برغباتنا إلى حد الطغيان.

فكلما استطاع الإنسان أن يرشد من رغباته أستطاع أن يحمي نفسه من الطغيان، نعم الطغيان وعواقبه. فإذا جلسنا على سفرة الطعام برغباتنا، (نريد أن ناكل من كل شيء وكأننا نأكل طعام واحد، فكل نوع من أنواع الطعام نأكل منه وجبة تامة وكاملة الدسم)، وليس بحاجاتنا فنحن أقرب إلى الهاوية (فَقَدْ هَوَىٰ) كما تقول هذه الآية الكريمة:
(كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ)

فالرغبات وفي غفلة من صاحبها قد تتطور فتتحول إلى شهوات منفلته وعندها تكون العواقب وخيمة، فالنار محفوفة بالشهوات كما يقول الحديث الشريف: (الجنة حفت بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات)

وكما أن هناك حاجات ورغبات في الطعام، هناك أيضاً حاجات ورغبات عند بناء بيوتنا، فهل نبني بيوتنا وفق حاجاتنا أو على ضوء رغباتنا. نظرة سريعة على حجم بيوتنا تكفي لنعرف كم هي بحاجة إلى رجيم، ورجيم من النوع الثقيل. بيوتنا ما عادت بيوت، بيوتنا باتت مستودعات.

مجالس للرجال والنساء نخزن فيها أحدث المفروشات ولا نستخدمها الا نادرا. فاستقبال الضيوف في البيوت باتت عادة على وشك الانقراض، فالاهل والأقرباء نستقبلهم في صالة العائلة والبقية الباقية نلتقي بهم أما في المطاعم أو الاستراحات والمقاهي. وغرفة الطعام فيها كل شيء إلا الطعام. صارت مكان للعرض وليس للأكل، تجد فيها اطقم من الأواني والتحف والزينة ولكن لا تجد فيها دسومة ولا حتى رائحة لطعام.
اما المطابخ فالحديث عنها حديث ذو شجون، فصار عندنا مطبخ للعرض، ومطبخ للطبخ، مطبخ نظيف ومطبخ وسخ (Dirty kitchen) لنتخيل أثر هذه الكلمة في عقول بناتنا، فالطبخ بات عملية وسخة، وبالتالي علينا أن نبعد هذا العمل عن عيوننا في مكان آخر، واذا جاء الطعام من مكان اخر كالمطعم فذاك هو الأحسن. ولعل هذا يفسر كثرة المطاعم والمقاهي عندنا، فبين مطعم وآخر تجد إفتتاح مطعم او مقهى جديد. هل هي هجرة بعيدا عن بيوتنا، فالأكل في المطعم والراحة والترفيه في الاستراحات، واللقاء بالأهل والأقارب في المجالس والديوانيات، بقي لنا النوم فقط، فبيوتنا عادت منامات وليست مساكن.

ليس كل بيت كبير فهو مريح، وليس كل بيت مزدحم بالاثاث والمقتنيات فهو جميل، فالبساطة دائماً هي الأجمل وهي الأكثر راحة، فنحن لا نريد بيوت مستودعات ولا حتى معارض أو متاحف.
هناك اليوم آلاف من المواد الكيميائية المصنعة تدخل في صناعة مواد البناء والأثاث وهذه لها تبعات خطرة لأن لها انبعاثات ضارة على صحة الإنسان. فعندما يتضاعف عدد المصابين بالحساسية إلى ستة أضعاف ففي هذا مؤشر قوي على أننا بتنا نسكن في مستودعات للمواد الكيمائية وليس في بيوت صحية. هناك الكثير من الدراسات التي تشير إلى أن نصف امراضنا ربما كانت بسبب التلوث الموجود في بيوتنا، من الصداع والتعب إلى الأمراض النفسية والبدنية الخطرة.

بيوتنا اليوم بحاجة إلى أن تكون رشيقة وصحية ومريحة، ولن تكون كذلك اذا اردناها أن تكون مستودعات أو معارض أو متاحف. فالبيت هو للسكن والراحة فمتى يعود كذلك.

(وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى