بشائر المجتمع

الشيخ آل سيف: زينب (ع) تنظر بعين الغيب

بشائر: الدمام

استحضر سماحة الشيخ فوزي آل سيف أقوال بعض المؤرخين من شيعة أهل البيت، كالسيد ابن طاووس في كتابه (اللهوف) حول وصول ركب الأسارى في أول صفر إلى دمشق، أما الطبري فقد ذكر في كتابه (تاريخ الرسل والملوك) أنهم وصلوا في الثاني من شهر صفر، وأوقفوا على بوابة دمشق المعروفة إلى اليوم باسم باب توما، ذاكراً ذلك في الليلة ١٨ من شهر محرم.

ولفت إلى أن (توما) هو أحد حواريي المسيح عيسى ابن مريم، وتاريخياً كانت هذه المنطقة بيد الرومان، حيث بنوا في هذه المنطقة كنيسة، وكان الدخول إلى دمشق بالمرور في هذه الكنيسة، مبيناً أن بعد الفتح الإسلامي للشام غُيرت معالم الكنيسة ونصبت عليها منارة، فهذا الباب أشبه بمدخل إلى مدينة دمشق.

وأشار إلى مظاهر الزينة والفرح استعدادا لوصول الأسرى والتفرج عليهم، قائلاً: “قيل في بعض الروايات أن إحدى النساء أشارت للشمر أن يسلك بهن طريقا قليل النظّار، وقد قيل أن تلك المرأة سكينة، والأرجح أنها أم كلثوم، كونها المتصدية لأمور الركب بعد السيدة زينب (ع) لاعتبارت سنها وكونها عمة سكينة، كما طلبت أن يخرجوا الرؤوس من بين المحامل لكي يشتغل الناس بالنظر إلى الرؤوس عن النظر إلى النساء، وهذا هو المأمول من سيدات بيت النبوة، إنه كلما استطعن سبيلا إلى التستر والاحتجاب فهن يصنعن ذلك، لكن الشمر لم يستجب لها بل عمد إلى ركز الرؤوس في وسط المحامل بين النساء، وسلك الطريق المعد سابقاً، والذي يكثر فيه الناس”.

وذكر أن من عادتهم الإعلان والتشهير بمثل هذه المناسبات، وكان ذلك مؤذيا للنساء من أهل البيت (ع)، ثم أُخذ الركب إلى قصر يزيد، وفي رواية أنه قبل إدخالهن على يزيد ربطن بالحبال، ومعهم الإمام السجاد (ع).

وبين سماحته أسلوب يزيد في قلب الموازين حين قال للإمام السجاد (ع): إن أباك قطع رحمي! واستدل بالآية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} بقصد أن يقول للإمام إن المعتدي والدك وإن الله دافع عني، فلقي أبوك بأمر الله جزاء ما قدمت يداه؛ هذا القاتل والسابي، الذي لم يحفظ قرابة رسول الله، يأتي ويطالب وكأنه صاحب الدين! فرد عليه الإمام السجاد بأن المصائب التي تحصل للبشر كلها بعلم الله وإذنه، لكن المسؤول عنها هو المباشر لها، وليس الله، فهذه الآية التي تلوتها إنما نزلت فيمن يظلِم وليس فيمن يظلَم، فخليق بك أن تقولها لنفسك، لأنك أنت الظالم، فسكت يزيد لأنه لم يجد جوابا.

وذكر أن أم يزيد ميسون الكلبية امرأة غير عفيفة فارقها معاوية، فرجعت إلى أهلها، وكانت نصرانية، ولحق بها يزيد وقضى معها طفولته وشبابه، لافتاً إلى أن ما يطفح به شعره، من تهتك وخمريات واستهتار بالصلاة كان من تأثير تلك البيئة التي عاش فيها، وهي بيئة منفلتة.

وتطرق إلى الموقف الذي أفجع قلوب النساء والأطفال، حينما ردد يزيد المعلون أبياته: (ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل …)، وهو يقرع ثنايا الحسين (ع) بعود خيزران!، مشيراً إلى أن زينب (ع) ألقت خطبتها على أثر هذا الموقف، قائلا أنها ربما لم تكن لتقف بين الحاضرين لولا هذا الموقف، مؤكداً أنها (ع) “قدمت خطابا عجيبا يجب أن يدرس في مناهج البلاغة والأدب، وفي كليات اللغات العربية، باعتباره من أفضل النصوص، مبنى، ومعنى، وأداء، ولغة، خطابا جامعا لصفات الكمال، وبالنظر إلى الظرف الذي كانت تعيشه زينب (ع) هو أشبه بالإعجاز! فهي الفاقدة الثكلى، وفي عهدتها هذا العدد من الأطفال والنساء، ووراءها تلك الأحزان، والآلام، وقادمة من سفر طويل وقد بلغ بها التعب.. وتتكلم بهذا الكلام!”.

وفي شرحه لخطبة السيدة زينب (ع) استعرض أحد المباحث الأخلاقية المهمّة التي أشير إليها في هذه الخطبة، وهي أن الإنسان بفعل المعاصي قد ينتقل من حالة الفسق الجوارحي إلى درجة الكفر الوجداني، حيث استلّت العقيلة زينب (ع) هذا المبحث من الآية الكريمة {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} فعاقبة السوء هي الوصول إلى التكذيب بآيات الله، وهذا كفر وإلحاد.

واسترسل قائلاً: “زينب (ع) جاءت باستشهاد قرآني بديع، في بيان حديثها يفيد بأن الطواغيت والسلاطين تعمى عيونهم عن معاينة الحقائق بالانشغال بالأموال والانتصارات، فيغفلون عن النظر إلى الواقع، ويكونون بعيدين عن الحقيقة، وفي يوم من الأيام يرى الطاغية نفسه قد ارتطم بهذا الواقع، وينتهي ملكه، وهذا ما حصل مع يزيد”، مشيراً إلى إن من آثار سفك دم الحسين (ع) هلاك ثلاثة حكام أمويين خلال سنتين، بطريقة مجهولة.

وبين أن الدولة الأموية السفيانية سقطت في أوج عزها، بعد أن انقسمت إلى خطين مختلفين: سفياني ومرواني، مستفهما: “فأي نصر هذا الذي ينهي دولة المنتصر ويسقطها؟!”، ومذكرا بقول زينب (ع): “أنسيت قول الله عز وجل “وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ” وهي (ع) تخبره بأن مستقبلكم كدولة ومستقبلك كحاكم إلى انتهاء، فلا تتصور أنك قابض على الأمور، وسيكون لك العذاب المهين في الدنيا والآخرة، وتحقق ذلك بالفعل.

وتابع إلى قولها (ع): “أَمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟..”، مؤكداً أن هذه الفقرة ترد على كل التزوير التاريخي الذي جاء به مؤرخو بني أمية، الذين زعموا بأن عائلة الحسين لم تسيّر إلى الشام، وأنهم لما أتوا إلى الكوفة أخذوهم إلى المدينة وانتهى الموضوع! كما ذكر صاحب منهاج السنة وأمثاله، فهنا صوت زينب (ع) يدوي في مجلس يزيد (وسوقك بنات رسول الله سبايا)، ويقول بعضهم: نعم أتوا بهم واستضافوهم وأحسنوا إليهم، وهذا كذبٌ، والصحيح أنهن سبين بكيفية مهينة (قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن)، بل ليس بطريق خال، وإنما على الطُرق العامة (ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل)، موضحاً بأن المناهل أماكن المياه التي يأتي الناس إليها، والمناقل المناطق والقرى والبلدان، فأهلها ينتظرون مجيئهن حتى يتفرجوا عليهن.

وفصّل في قولها: “ليس معهنّ مِن رجالهنّ وَليّ، ولا مِن حُماتِهنّ حَمِيّ، وكيف يُرتجى مراقبةُ مَن لفَظَ فُوهُ أكبادَ الأزكياء”، قائلاً على لسان زينب: “نحن لا نستبعد هذا منك، ولا نتوقع منك أن ترتدع عن هذه الأفعال، فأنت ابن من؟ ومن أمك وجدتك؟ جدتك هند التي قضمت كبد الحمزة، فالولد الذي تكون هند جدته وفلانة أمه لا يستغرب منه أن يأمر برض صدر الحسين، ويضرب رأسه وثناياه (ع).

وذكر قولها: “مُنتَحياً على ثنايا أبي عبدالله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمِخْصَرتك” مبيناً أن (النكت) هو الضرب على الأسنان، و(النكث) الضرب الشديد الذي يسقط الأسنان، مسترسلاً في قولها: “وكيف لا تقول ذلك وقد نكأتَ القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماءَ ذريّة محمّد صلّى الله عليه وآله، ونجومِ الأرض مِن آل عبدالمطلب! وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم، فَلَتَرِدَنّ وَشيكاً مَورِدَهم”، أشياخك الكفرة الذين واجهوا رسول الله وحاولوا قتله وجيشوا عليه الجيوش، وقريبًا يرد موردهم في نار جهنم ويكون معهم وفي زمرتهم، وسيتمنى لو كان مشلولاً أو أبكم في قولها: “ولَتَوَدّنّ أنّك شُلِلتَ وبُكِمتَ ولم يكن قلتَ ما قلتَ وفَعَلتَ ما فعلت”.

وتوجه إلى قولها (ع): “فوَ اللهِ ما فَرَيتَ إلاّ جِلْدَك، ولا جَزَزْتَ إلاّ لحمك” يعني لا تتصور أنك قتلتنا وذبحتنا، بل أنت قتلت وذبحت نفسك، إلى قولها: “ولئن جَرَّت علَيّ الدواهي مُخاطبتَك” وهُنا السيدة زينب تبين البون الشاسع بين مقامها ومقام يزيد، فهي (ع) ذروة الشرف والعلياء من آل هاشم، وهو الصغير الحقير.

وختم سماحته بقولها (ع): “فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا” متأملاً
في كلمات العقيلة زينب (ع) ووصفها بأنها تنظر بعين الغيب، وعلق سماحته قائلاً: “هذا الفيروس عطل كل العالم، لكنه لم يعطل عشاق الحسين عن الحسين (ع)، يوم العاشر رأينا الجموع لا تبالي بهذا الوباء، هؤلاء العشاق لم يبالوا بالموت الأحمر في عشق الحسين (ع)، فتراهم يذهبون بعشرات الألوف وهم يعلمون بأن الخطر حقيقي وجدي، ولكن كما بادر أولئك في كربلاء إلى القتال مع علمهم بأنهم يقتلون، هؤلاء الناس كذلك، وكلهم جذبهم نور الحسين (ع)، فزينب (ع) كأنها تنظر إلى المستقبل، لكن تقول والحق ما قالت: “لكن العيون عبرى، والصدور حرّى”.

يذكر أن آثار باب توما موجودة إلى اليوم، كما يعرف بـِ باب الساعات، وذكر بعضهم أن سبب التسمية أن ركب الاسارى وقفوا في هذه المنطقة عدة ساعات، فصار في الثقافة الدينية ولاسيما الشيعية يعرف بباب الساعات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى