أقلام

جبل الرماة وحقنا البشري

منى الصالح

وأنا أزور جبل الرماة في أُحد للعام الثاني على التوالي، وأقف حيث وقف صحابة رسول الله وهم يتلقون أوامره وتوجيهاته، حيث المفصلالثاني والمنعطف المهم في مسيرة الدولة الفتية التي يقودها هذا الإنسان العظيم.

استوقفني كثيراً تساؤل لم أستطيع أن أحيد بتفكيري عنه، وخاصة أنه قد شغل ذهني فترة ليست بالقصيرة وتدور حوله قراءاتي.

كيف تعامل محمد مع عصيان الرماة لأوامره؟؟

ماهي ردة فعل بقية الصحابة وهم يجدون رسولهم وقائدهم قد أصيب بسببهم؟

وبعد هذه الانتكاسة وعصيان الأوامر ماذا حدث؟

هل كفروا؟ هل عوقبوا؟

هل أخرجوا من دينهم؟ من ديارهم؟ بل هل عابهم أو عاتبهم قائدهم مجرد عتاب؟

أم هو تطبيق عملي لسنن النصر والخسارة في واقع بشري يقدر ويعي القائد فيه، مامعنى بشرية الإنسان، وحقه الطبيعي بالخطأ، الذي منخلال ممارسته هو وليس من ينوب عنه ينضج وعيه الكوني. وكما يذكر أستاذنا الرفاعي:

(مهمةُ المُعلّم إيقاظُ العقل وتنميتُه،كي يكتشف التلميذُ الأخطاء،ويهتدي إلى الصواب بنفسه،لا أن يقتاده كأعمى،لأن ذلك ينتهي إلى سباتِعقله، ‌‏وعجزِه عن التفكيرالنقدي وتعطيلِ ملكة الإبداع لديه).

ونحن أمام هذا الموقف تماماً بكل تجلياته الرحمانية حيث الزمن بعد أربعة عشر قرناً..

نقف ها هنا.. يكفر أحدنا الآخر ويُخرجه من ملته  ومذهبه لمجرد مخالفة صغيرة، وقد يكون هو من يعتبرها مخالفة لأمر رسول البشرية،تفصيل بسيط وليس أرض معركة كأحد؟

مجرد حلق لحية أو زِيّ أو طقس يمارسه وأصبح جزءاً من دينه عبر الزمن؟

كم من أسرة فككت وتشرد أبناؤها لتصور الأب أو الأم أن هذا الجيل الجديد في ضياع وتيه لخروجهم عن المألوف والمعتاد الذي أصبحمقدساً؟

وكم وكم عانت مدارسنا، ومساجدنا، وشبابنا، وشاباتنا من التهميش والإقصاء نتيجة ممارستهم لهذا الحق الطبيعي؟

(كل من يفكر يخطأ، وعدم الخطأ واستهجانه يقيّدُ عقلَه ويغلقُ تفكيرَه، ويُضعِف قدرةَ ذهنه على توليد الأسئلة الخلّاقة، ويجعله مولعاً بمحاكاةغيره)الرفاعي.

وقد يكون هذا وراء واقعنا المتأخر!

السؤال الأكثر إلحاحاً: ما الذي أوصلنا لهذه المرحلة؟

لِمَ بتنا ننظر للخطأ و كأنه جريمة أو كبيرة لا تُغتفر؟

لِمَ تعاملنا مع التشريع، والتاريخ، والمروي وكأنه كتاب منزل من السماء؟

لم ألّهنا البشر وجعلنا منهم شخصيات فوق الخطأ، بحيث وجدنا أنفسنا بعيدين جداً؛ ولا يُمكننا اللحاق بهم أو الاستنارة بهدي سلوكهم؟

أين نحن من القرآن الكريم وهو يؤكد في كل آياته على بشرية الإنسان مهما علت منزلته كنبي أو رسول أو وصي ،وأن الخطأ الصادر منهملا يُسقطهم، ولا يُخرجهم من نور الله؟

فقصص القرآن تصدح بكل تفاصيلها على هذا البعد وتؤكد عليه من قصة آدم إلى آخرها.

لنتأمل كل قصة وبكل عمق المعاني التي ترمز إليها.

لِمَ نُصِرُ على تأويل كل إشارة قرآنية لهذه الأخطاء البشرية على أنها طبيعية لنخرج صاحب الرمز فوق حدود الخطأ؟؟

هل هو هذا الجين الإلهي في طبيعتنا؟ والنفخة الروحية في أعماقنا، التي حيرت الإنسان منذ بداية الخلق باحثاً عنها تارة في مايعجزه منآيات الكون، وتارة كما في الأساطير حيث الآلهة البشر، ومايزال في رحلة البحث الذي قد يأخذنا نفسه لمنحى الطغيانإن الإنسان ليطغى

حيث الأنا تتضخم ليولد فرعون حين نرفض الخطأ ونتعالى على طبيعتنا. فرعون الذي نحمله بأعماقنا وأشار له القرآن ينتظر الفرصة ليصرخ(أنا ربكم الأعلى)!

لنحرر التفكير قليلاً فقط، ونحترم هذا الرسول الذي أكرمنا الله به و نُبحر بآيات الله متعرين من كل القيود النمطية، والأغلال الصنمية، لنرىالعمق بالمعنى حيث الحُب والرحمة والمغفرة التي تشملنا، وتُحيط أخطاؤنا لتحيلها لتجارب وعي ونضج وبصيرة وحكمة، ومنها ومن خلالهاتتكامل الإنسانية وتبني الأمم حضارتها.

وعدت من تفكيري وأنا أقف حيث الرماة المخطئين، وقد علت وجهي صفرة ورعشة كبقية الصَحب.

ننتظر أمر رسول الله فيناتغمرنا أحاسيس شتى:خوف، وخجل ، وعار.

ويطل علينا بنوره الرباني بعد أن ضُمِدت جراحه، يبتسم ويربت على أكتافنا كعادته. أنكم أخطأتم حقاً وهذا ليس عيباً.

مارستم حقكم في تقدير الموقف، وهذا الخطأ علمكم ودربكم وعرفتم من خلاله الصواب، بل كنتم درساً تربوياً لنا جميعاً.

حقاً إنه القائد والمعلم المُلهم الذي يساعدك ويأخذ بيدك على أن تقدر نفسك الداخلية وتحترمها. إن المعلم الشفاف كالبلور، يعبر نور الله منخلاله.

هو نفسه الهدي الذي أتنفسه حين أقرأ قوله تعالى ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًارَّحِيمًا)).

نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

شكر خاص للمفكر  د. عبد الجبار الرفاعي في مقالته حق الخطأ وأثارته نقاط هامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى