أقلام

الهميلي يعيد صياغة ذاته المؤمنة

د. يونس البدر

تجربة الشاعر عبد الله الهميلي تستحق أن يُحتفى بها ويُدار حولها الحديث النقدي والفلسفي، وذلك لأننا لا نجد القصيدة عنده مباشرة أو سطحية أو مجرد نظميات، بل تتوغل في عمق فلسفي فريد يمتزج بالفلسفة والتاريخ والأسطورة، ولن تقف على حدود تأويلات الهميلي إذا لم تدرك تلك الروابط التفاعلية الدقيقة بين نصوصه على مستوى الأزل، رغم تباعدها الوجودي على مستوى الزمن، فكل نص منها هو حافة من حواف الإقلاع إلى فهم الوجود، وللتأكيد على هذه الصلة بين نصوصه مجتمعة فلننظر لنصه (سأصوغني) الذي يبدأ بقوله:
(سأعيد ترتيب الحياة بداخلي)
إنها أربع كلمات تقوم مقام الحدّ التعريفي الذي يضعه الهميلي لمشروعه في صياغة ذاته، فالصياغة الجديدة هي (فعل إعادة) للقضاء على فوضى تملأ الحياة الداخلية للشاعر ولا أظنه سيصل إلى نهاية الصياغة إن كان يسعى لذلك حقاً، هذه الحياة التي ترتبط بآدم الإنسان البدئي الأول الذي يحمل رمز بداية الحياة البشرية في هذا الكون حيث انتهاء وصاية الآلهة على تكوين العالم، يظهر ذلك في نصه الآخر الذي لا يقل وهجًا فلسفيّاً عن سابقه، ولا يذهب بعيداً عن صياغته التكاملية للنصوص، وهو نص (آمنت بالشعر) الذي يبدؤه بقوله:
( آمنت بالشعر جزءاً من طبيعتنا
كآدميين منه العالم انبثقا)
رأى الهميلي أنّ عليه أن يدخل دائرة إيمان جديدة تحتضن لحظته الراهنة فلم يجد إلا أن يؤمن بالشعر، الشعر الذي هو محفل جمالي في وجوده، يحوله عبدالله عبر صياغته الجديدة إلى صفة ذاتية في آدم الأب، وإيمان عبدالله بالشعر جاء عقيدة خالصة لوجه الشعر كيف لا وهو الوسيلة الوجودية التي ستوصله إلى الغاية الكبرى وهي ترتيب فوضاه. ولأنه لن يبرح عبادة الشعر حيث لا أفق ينتظره فإنه يبقى قابعاً في العدمية مبحراً في الأبدية هكذا هو يقول في نص نثري:
(ترتديني العدمية
في شط النشوة
أسكر في قعر اللحظة
الوجود من حولي
زرقة
أبحر في الأبدية)

وفي غمرة القراءة لنصوصه لا يتعبك في البحث عن موقفه من الشعر، سترى الهميلي شاعراً يؤنث القصيدة ليس في شكلها وسياجاتها الظاهرة بل بحضور الأنثى في كيانه وكينونته وإيمانه بأنوثة الشعر الحديث في كلّ شكل وفي أيّ صورة، لذلك فنصوصه الكبرى لا نراها تأخذ التفعيلة أو النص النثري رداءً لها كعامل هدم لفحولة الشعر في صيغته الذكورية التي صممها القدماء وهدمتها نازك الملائكة لتقتل بذلك شيطان الشعر وتطلق رصاصة الرحمة على الجملة القائلة (الشعر شيطان ذكر) كما نقرأ عند الغذامي، ومن ذلك نجد الهميلي في قصيدة خليلية يقول:
كل القصائد أنثى كل معجزة
منذ الخليقة منذ الشعر مذ نطقا

أهرقت عمري في دنياه أخيلة
ورحت أجلو على مرآته القلقا

وهنا يتخلص الهميلي من كل عوالق القصيدة القديمة بدءاً من فكرة آدم عنها إلى فكرة المتنبي إن صح القول، إنه شاعر معانٍ بامتياز، عبر إيمانه المطلق بتأنيث القصيدة وعلى القارئ أن يكون مختلفاً ويؤمن بهذه الحقيقة.
ويصل قمة تجربته الشاعرة في نصه الذي يستهلّه بالنص مشبّهًا به، بقوله:
(كنصٍ على متن الغياب نخونه
ككون توارى في المجاهيل كاتبه)

وينتهي بقوله:
(بجلجامشٍ كنا نلاحق وعينا
وأشباح أنكيدو تظل تخاطبه)
وفي نص الهميلي هذا الذي يجعل ذاته متوارية خفيّة في عالم المجاهيل والرموز الأسطورية، لن يبرح أنكيدو جثة هامدة أما جلجامش فلن يبكيه إلى الأبد.
وهكذا فكل تأويل لنصوصه سيقودنا إلى أن الهميلي شاعر رؤيا بامتياز، والشاعر الرائي بحسب أدونيس هو ذلك الشاعر الذي يرفض عالم المنطق والعقل لأنّ شعريته لا تجيء وفقاً لمقولة السبب والنتيجة إنما تجيء في شكل خاطف مفاجئ أو تجيء إشراقاً، إنه شاعر رؤيا من طموحه التي تسمو على كل إيديولوجيا وتخترق المجالات الغيبية والفردانية، وفي هذا السياق نجد الهميلي يحاول الجمع بين آراء متناقضة على نحو غير متجانس أحياناً، ولكن ذلك حتماً يقع ضمن اعتقاده بعوالم المعرفة الجديدة، ولا مواربة في ذلك فالهميلي أمامه من التجريب زمن أطول مما وراءه فلا زالت الأسئلة تتزاحم في قريحته التي تؤمن بقيمة السؤال وتحتفي به.
وأخيراً، لطالما قيل عن الهميلي إنه يكتب الشعر لأنه يقرأ وكما يقرأ، ولكني أقول إنه يقول الشعر لأنه يحسّ بما يقرأ ويستلهم شعريته من كلّ ما يقرأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى