أقلام

ميلاد النـــــور الزاهر

سيد جواد المهري

الحياة كئيبة، والأفق في السماء لا يوحي برفق ولا يسر.
غمامة من البلاء تحيط بجنبات شعب أبي طالب، ظروفٌ شاقّة بكل معنى الكلمة. ولكن هناك أملٌ يبدو من بعيد. أملٌ فيه بارقة نور مشع. أملٌ تلو أمل كلما نظرت خديجة الى زوجها الصابر الصادق الأمين وهو يبتسم في محياها ابتسامة تكاد تُمحو كل آثار العناء والشقاء، ابتسامة حنان ومحبة من أحب كائناً عند الله.
وبينما كان قلب خديجة مضطرباً مرتعشاً، خوفاً على حبيبها رسول الله روحي فداه، من وحشية الأعراب وهمجيتهم الجلف الأشد كفراً. كانت تنتظر وليداً فجنينها ربما كان متألماً لآلام أمه.
و لم تنتظر طويلاً حتى بدأ الجنين يكلمها من الرحم وتطيب خاطرها وتبعد عن قلبها الرؤوف كل ملامح الاضطراب والرعب! يا له من جنين.
نعم، كل ما في هذا البيت عجيب، ولا نعجب لأمر الله.
ودخل الوالد المقدام الدار ذات يوم ليرى زوجته الحبيبة تكلم شخصاً ما، ولكن لا يوجد أحد في البيت ولربما أثرت الحالة المضطربة في نفسيتها فقامت تناجي نفسها وتحدث روحها، ولكن خديجة ردت باطمئنان: أكلم جنيني الذي في بطني! إنه لا يدعني مضطربة ولا خائفة بل يكلمني من حين الى آخر.
نعم إنها المحدثة والمتحدثة.
ورسول الله صلى الله عليه وآله الذي كان ينتظر تلك الفرصة الجميلة بفارغ الصبر قال مبشراً إياها:
« أبشري يا خديجة بذرية طاهرة مباركة، فهذا جبرئيل بشرني أنها أنثى، وأنها النسمة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل منها أئمة ويجعلهم خلفائي في أرضه.»
وتنقضي الأيام سراعاً لتتفاجأ خديجة الكبرى بالمخاض . وطلبت من نساء مكة أن يساعدنها فامتنعن! بينما هي متألمة ذعرة أقبلت إليها أربع نساء هن نساء الجنة: سارة وآسية بنت مزاحم ومريم ابنة عمران وصفراء بنت شعيب (وفي رواية كلثم أخت موسى) وهبطت الملائكة بأجنحة من نور تحيط بهذا البيت المبارك من كل جهة. بل وازدحمت الملائكة لاستقبال سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين. وُلدت فاطمة وهي ساجدة لرب العالمين. وجاء الأب العطوف حاملاً هذه الحوراء الإنسية بيديها المباركتين وطبعَ قُبلة الحب والحنان على وجنتيها، وارتسمت الابتسامة على محيا رسول الله في أحلك الأوقات وأضنكها مستبشراً حامداً.
و يحكي الإمام الصادق عليه السلام قصة الميلاد:
« فبينا هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنهن من من نساء بني هاشم. ففزعت منهن، فقالت لها إحداهن: لا تحزني يا خديجة، فإنا رسل ربك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه صفراء بنت شعيب ، بعثنا الله تعالى إليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء.
فجلست واحدة عن يمينها، والأخرى عن يسارها، والثالثة من بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت خديجة فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرة.
فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها نورٌ حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.»
و أقول:
لم تشرق الأرض فقط بل أشرقت السموات كلها بهذا النور.
وأما محياها فقد نظر إلى وجهها رسول الله فرأى فيها نفسه. إنها مرآة رسول الله، بضعة منه، جزء لا يتجزأ منه. الروح نفسها، الخُلق نفسه والخِلقة نفسها والصفات نفسها. وكأنها هي رسول الله بل هي أم أبيها. وهذا ليس تصوراً بل تصديقاً وليس خيالاً بل حقيقة.
كيف تنظر أيها القمر في محياها فإنه آية من القرآن ورواية من الكتاب. أجل، ترى في سيماها خالق الخلق كتب بيراع الوحي: «نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» وفي جبهتها رسم رب العُلى « ولقد كرمنا بني آدم » وبين عينيها كُتب: « وإنك لعلى خلق عظيم » فهذه بضعة من ذاك وقبس مشعّ من ذلك النور السرمدي. والعظمة تحيط بها من كل جانب وإن نورها – كما ورد في الأثر – أنار بيت الوحي فيا له من نور.
وسماها رسول الله “فاطمة”.
يا لهذا الاسم من جذبة روحية معنوية عُلوية يتباهى به ملائكة السماء قبل أن يعتز به أتباع آل البيت ومواليهم.
إيه فاطمة. نحن ورب البيت نقدس هذا الاسم إجلالاً واحتراماً لصاحبه ونأمل أن يسعدنا ربنا بشفاعتك يوم اللقاء فإن لكِ عند الله مقاماً محموداً وشأناً عالياً فاكتبينا في صفحة محبيك ومحبي أبيك وبعلك وأبنائك الطاهرين لتهنأ لنا النشأتان. وسلام من الرحمن عليك أيتها الصديقة القديسة آناء الليل وأطراف النهار.
وفي الختام نزين مقالنا بحديث من مولاتنا الزهراء سلام الله عليها :
عَنْ فاطِمَةَ الزَّهْراءِ علیها السلام قالَتْ: دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ الله صلى الله علیه وآله وسلم وَقَدْ افْتَرَشْتُ فِراشىي لِلنَّوْمِ، فقالَ: یا فاطِمَةُ لا تَنامي إلاّ وَقَدْ عَمِلْتِ أَرْبَعَةً:خَتَمْتِ القُرآنَ، وَجَعَلْتِ الاَْنـْبِیاءَ شُفَعائَكِ، وَأَرْضَیتِ الْمُؤْمِنینَ عَنْ نَفْسِكِ، وحَجَجْتِ وَاعْتَمَرْتِ،
قالَ هذا وَأَخَذَ فِى الصَّلاةِ، فَصَبَرْتُ حَتّى أَتَمَّ صَلاتَهُ، قُلتُ: یا رَسُولَ الله أَمَرْتَ بِأَرْبَعَة لا أَقْدِرُ عَلَیها فى هذَا الْحالِ!
فَتَبَسَّمَ(صلى الله علیه وآله وسلم) وَ قال:إِذا قَرَأْتِ قُل هُوَ الله أَحَدٌ ثَلاثَ مَرّات فَكَأنَّكِ خَتَمْتِ القُرْآنَ، وَإِذا صَلَّیتِ عَلَيّ وعَلَى الاَْنـْبِیاءِ قَبْلي كُنّا شُفَعاءَكِ یوْمَ الْقِیمَةِ، وَإِذا اسْتَغْفَرْتِ لِلْمُؤْمِنینَ رَضُوا كُلُّهُمْ عَنْكِ، وَإِذا قُلْتِ: سُبْحانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِله ولا إِلَهَ إِلاَّ الله وَالله أَكْبَرُ، فَقَدْ حَجَجْتِ وَاعْتَمَرْتِ. (بحار الأنوار ١-٣٠٤)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى