أقلام

تؤكد دراسة أن الإنسان المعاصر وإنسان النياندرتال يتشاركان في تاريخ وراثي متشابك

المترجم: عدنان احمد الحاجي

مقدمة عاد عبد الله البشراوي

يجري الحديث عن التقاء سلالتي الإنسان الحديث وإنسان النيانديرتال على أنهما تلتقيان في جد مشترك يرجح انتمائه لسلالة الهومو هايدلبيرغنسيس Homo Heidelbergensis ، وأن هذا الإشتراك يعود لقرابة الـ 800 ألف سن مضت.

ولكن برأيي المتواضع فهذا تبسيط شديد لما يخص القرابة النسبية بين السلالتين. لأن هذا الطرح مبني على فهم متجرد عن واقع الحياة في الطبيعة، وهو واقعًا منشأ اللبس الذي نراه في تصورات البعض في هذا الجانب.

ما أقصده من التبسيط الشديد متعلق بحقيقة الإكتفاء بذكر التقائهما في الجد المشترك. فعلاقات هاتين السلالتين لا تنحصر في الإلتقاء في الجد، بل تستمر في تقاطع لعدد من مئات الآلاف من السنين في التقارب الجنسي بين أفراد هاتين السلالتين، وهو ما يتيح تبادل  جيني (انبجال جيني) introgression مستمر بين السلالتين، بحيث أن محاولة الفصل بينهما في النوع صعب في أحيان كثيرة.

عبر مناسبات الإلتقاء الجيني المتكررة وخلال مئات من آلاف السنين فأنا لا أستطيع توصيف العلاقة بين السلالتين بمجرد ذكر التقائهما في ذلك الجد، لأن عدد التقاطعات التي تخللتها أجيال متعاقبة من أفراد السلالتين يجعل من هذه العلاقة أكثر التصاقًا من لو كانتا فقط مشتركتين في ذلك لجد.

تعريف العلاقة بالإلتقاء بالجد المشترك قد يكون كافيًا لو أن السلالتين افترقتا تمامًا، كأن لو غادر أفراد إحدى السلالتين إلى المريخ. ولكن تواجدهما وتجاورهما اللصيق في السكنى، وبشكل متكرر، يضيف عوامل لعلاقات مستمرة. وخصوصًا حين نعلم أن تركيبهما الجيني والكروموسومي يتيح قدرًا كبير من قابلية الخصوبة الجنسية بين أفراد السلالتين.

دعونا نعود إلى أصل اللبس لنحاول معرفة تبعاته.

ذكرت أعلاه أن الصعوبة التي نعانيها في محاولة فهم الظاهرة تكمن في أننا نقاربها بتجرد وبعيدًا عن واقع الحياة في الطبيعة. ونحن نتعامل مع الظاهرة وكأننا ندرسها في واقع أسطوري، فلا نجري عليها تأثير متغيرات المناخ والكوارث الطبيعية وحالات الهجرة والإنتشار التي نعتمدها منهجيًا في دراستنا لانتشار الأعراق البشرية الحديثة، وأسباب تشكل المستوطنات وقيام الحضارات، وهذا فقط على سبيل المثال لا الحصر.

في سبيل الحصول على فهم واقعي غير متجرد عن مجريات الطبيعة، يجب علينا وضع مقاربة جديدة لفهم العلاقة الرابطة بين السلالتين. والوسيلة، كما ذكرت، هي أن نخضعها لظروف متغيرات المناخ.

وأنا أخصص المناخ كمؤثر لأني أعده أكبر متحكم في دفع البشر للهجرة والإنتشار نحو مواقع جديدة، بل هو المتحكم في دفع الأحياء كافة وليس فقط البشر. أما الإنتشار فأهميته تكمن في أنه المسؤول عن ظروف التقاء السلالات البشرية ببعضها في جغرافيا الأرض.

وهنا قد تفيدنا معرفة أن السلالات لا تقتصر فقط على سلالتي الهوموسابينز والهومو نيانديرتالينسيس، بل هناك عدد كبير من السلالات التي تجاورت وتزاوجت واشتركت في تبادل موادها الجينية، بينها سلالة تعد الأقرب لهاتين السلالتين وهي سلالة الهومو دينيسوفان.

تتوفر لدينا اليوم بيانات تشير إلى أن أول ظهور سلالتي الهوموسابينز والنيانديرتال كان ظهورًا متقاربًا، وهو في حدود الـ 350 ألف سنة الماضية. وأن سلالة الهوموسابينز ظهرت في مكان ما في إفريقيا، أما الأخرى فظهرت في أوروبا. ورغم أن الصورة العامة لاتزال مشوشة فلا نستطيع التحقق من دقة الأرقام، إلا أن خطوطها العريضة تبدو متوافقة مع آخر المكتشفات العلمية.

وفي حين حاجتنا الماسة لجمع كم هائل من البيانات لتقديم قراءة وافية لهذا الجانب العلمي الواسع، إلا أننا في محاولتنا للتعرف على طبيعة العلاقة بين السلالتين، لا نحتاج سوى مراقبة المتغيرات المناخية التي نتوقع أنها دفعت مجاميع من أفراد ينتمون لهاتين السلالتين للتنقل نحو الشمال في أحيان معينة، ونحو الجنوب والغرب والشرق في أحيان أخرى.

أما المناخ فنقصد به المتعلق بظاهرتي الدورة الجليدية والدورة التصحرية، وهما، بالمناسبة، دورتان لا تقاطع بينهما، فالدورة الجليدية تكمل تمامها خلال 100 ألف سنة، أما الاخرى فتكملها في قرابة الـ 21 ألف سنة.

وعليه فإن هذه التقلبات المناخية سوف تتسبب في هجرة السلالات نحو مناطق أكثر اعتدالًا وتوافرًا على سبل العيش، من ماء وكلأ، وهربًا من الجفاف والحر الشديد، أو الصقيع الشديد.

وهذا مايهيئ الظروف إلى أن يلتقي أفرادٌ ينتمون لهاتين السلالتين، ويتم بينهما تبادل الجينات والألائل، ومن ثم العودة للهجرة بعد تغير ظروف المناخ، يحمل هؤلاء المهاجرون لجينات اكتسبوها من التزاوج مع سلالات أخرى، ويأتوا بها إلى مناطق جغرافية بعيدة يلاقون فيها مع سلالات جديدة، ليبدأ معهم الإلتقاء وفرص التزاوج، والتي إن توفرت بينهم قرابات جينية وكروموسومية معينة تتيح لهم خصوبة جنسية، فإنهم سوف يستكملون معهم ظاهرة الإنتقال الجيني، الذي، وكما نلاحظه اليوم، قد فرض واقعًا أحيائيًا فريدًا، يقوم على هيمنة نوع واحد على كل جغرافيا الأرض هو الهومو سابينز سابينز Homo sapiens sapiens.  وتكرار كلمة (سابينز) هنا ليس خطأ إملائيا بل بات معرّفًا علميًا لبشر اليوم.

الدراسة المترجمة

في السنوات الأخيرة ، كشف باحثون عن أدلة تثبت أن الانسان المعاصر وإنسان النياندرتال لهما ماض مترابط ومعقد. على مدار التاريخ البشري، تزاوج هذان الجنسان من السلالات البشرية (البشراناويات) hominins  ليس مرة واحدة فقط، بل عدة مرات، كما يذهب إليه تفكير البعض.

دراسة جديدة تدعم هذه الفكرة، حيث وجدت أن الناس في أوراسيا اليوم لديهم مادة وراثية مرتبطة بإنسان النياندرتال من جبال ألتاي في سيبيريا الحديثة . هذا جدير بالملاحظة لأن الأبحاث السابقة أظهرت أن إنسان النياندرتال له ارتباط بموقع مختلف وبعيد – وهو كهف ڤينديجا Vindija في كرواتيا الحالية – وقد ساهم أيضًا بالحمض النووي لسكان أوراسيا العصر الحديث.

النتائج تعزز مفهوم أن الحمض النووي لإنسان النياندرتال قد ضُمنت في (أصبحت ضمن نسيج) الجينوم البشري الحديث في مناسبات متعددة حيث التقى أسلافنا بالنياندرتال مرارًا في أجزاء مختلفة من العالم.

نُشرت الدراسة في 31 مارس في مجلة علوم الوارثيات Genetics.

يقول الباحث الرئيسي عمر غوككومين Omer Gokcumen، الباحث في علوم الأحياء بجامعة بافلو: “لم يتم انتقال المادة الوراثية (الانجبال الداخلي) introgression  مرة واحدة من النيانديرتال”. ” بل تمثلت عملية الإنتقال على شكل شبكة عنكبوتية من التداخلات التي حدثت بشكل متكرر، حيث تفاعلت السلالات البشرية hominins القديمة المختلفة مع بعضها البعض، وورقتنا المنشورة هذه تضيف إلى هذه الصورة. هذا المشروع الآن سيضيف إلى جوقة من الأوراق العلمية الصادرة – لا زلنا ندرس هذه الظاهرة منذ بضع سنوات ، وهناك عدد من الأوراق البحثية التي نشرت مؤخرًا تتعامل مع مفاهيم مماثلة “.
“الصورة في ذهني الآن هي أن لدينا كل هؤلاء البشر القدامى في أوروبا وآسيا وسيبيريا وأفريقيا. لسبب أو لآخر ، بدأ أسلاف الانسان المعاصر في إفريقيا في النمو في العدد، ومع هذا التوسع في الانتشار، التقوا مع النياندرتال الآخرين وحدث اكتساب (انجبال داخلي) لحمضهم النووي ، إذا صح التعبير. “من المحتمل أننا التقينا بجماعة مختلفة من النياندرتال في أوقات مختلفة أثناء انتشارنا في أجزاء أخرى من العالم.” كما قال غوككومين.
غوككومين، الأستاذ المساعد في العلوم البيولوجية في كلية الآداب والعلوم بجامعة بافلو، قاد الدراسة مع المؤلف الأول رجب أوزغور تاسكنت Recep Ozgur Taskent، والذي كان حديث التخرج بالدكتوراه من القسم حينئذ. ومن بين المؤلفين المشاركين ين لونغ لين Yen Lung Li، خريج الدكتوراة من جامعة بافلو، وأيوانيس باترامانيس وبافلوس بافليديس من مؤسسة البحث والتكنولوجيا في اليونان .

لاستكمال هذا المشروع، حلل الباحثون الحمض النووي لمئات الأشخاص من أصول أوراسية. كان الهدف هو البحث عن أجزاء من المادة الجينية التي قد تكون موروثة من إنسان النياندرتال.
هذا البحث وجد أن المجموعة الأوراسية التي تمت دراستها يمكن أن تُنسب بعض المواد الجينية إلى سلالتين مختلفتين من انسان النياندرتال: إحداهما يمثله إنسان النياندرتال الذي أكتشفت بقاياه في كهف فينديجا في كرواتيا، والآخر يمثله إنسان النياندرتال الذي أكتشفت بقاياه في جبال ألتاي. في روسيا.

 

اكتشف الباحثون أيضًا أن المجموعات السكانية الحديثة التي درسوها تتشارك أيضًا في مساحات الحذف الجينية وهي مناطق مفقودة من الحمض النووي – في كل من سلالتي نياندرتال فينديجا ونياندرتال ألتاي.

تم عمل تسلسل للحمض النووي (الدنا DNA) من قبل فرق بحث مختلفة لسلالتي نياندرتال فينديجا ونياندرتال ألتاي في السابق، جنبًا إلى جنب مع تسلسل الدنا للمجموعات البشرية الحديثة التي تمت دراستها.

“يبدو أن قصة التطور البشري لا تشبه كثيرًا قصة شجرة لها فروع تنمو في اتجاهات مختلفة. بل اتضح أن هذه الفروع لها كل هذه الروابط فيما بينها، كما يقول غوككومين. “نحن نقوم باكتشاف هذه الروابط، وهو اكتشاف مثير بالفعل. القصة ليست واضحة وضوحًا جليًا كما كانت واضحةً سابقًا. كل جينوم قديم يُعمل له تسلسل يبدو أنه يخلق منظورًا جديدًا تمامًا في فهمنا للتطور البشري، وكل جينوم جديد يُعمل له تسلسل في المستقبل قد يغير القصة بشكل كامل مرة أخرى “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى