أقلام

رمضان في الأدب العربي

علي محمد عساكر

شهر رمضان شهر استثنائي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فهو يمتاز على غيره من الشهور بميزات كثيرة وكبيرة، جعلت له منزلة خاصة في نفوس المؤمنين.

فهو شهر العبادة والتضرع والابتهال والمناجاة والصلاة وقراءة القرآن، والتوسل إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة التي تقرب الإنسان إلى ربه، وتنفعه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[1]، خصوصا وأنه الموسم العبادي الذي يتضاعف فيه الربح من رب العالمين لعباده المؤمنين الصائمين، الذين هم ضيوف مكرمون عنده جل وعلا.

كما أن فيه الكثير من المناسبات الدينية المقدسة التي زادته شرفا على شرف، وقداسة فوق قداسة، كإنزال القرآن العظيم على قلب النبي الكريم، وغزوة بدر الكبرى، ومولد الإمام الحسن المجتبى، واستشهاد الإمام أمير المؤمنين، ووفاة السيدة خديجة بنت خويلد، ووفاة عملاق الإسلام، ومؤمن قريش المظلوم وعم النبي وكافله وناصره بيده ولسانه: أبي طالب عليه السلام، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

ومن هنا فقد حظي هذا الشهر المبارك باهتمام خاص لدى جميع المسلمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وكتبوا فيه وفي بيان فضائله الكثير نثرا ونظما.

فعلى مستوى النثر هناك الكثير من البحوث والكتب والمقالات التي سلطت الضوء على هذا الشهر العظيم، وتحدثت عن فضائله ومناقبه ومآثره، وما يمتاز به على غيره من الشهور، وما له من أثر فاعل في بناء النفس، وتطهير الروح، وتنقية القلب، إضافة إلى ما له من آثار صحية كثيرة أشارت إليها النصوص الإسلامية الشريفة، وأكدتها العلوم الطبية.

أما على مستوى الشعر والأدب، فقد تفاعل الشعراء مع شهر رمضان تفاعلا كبيرا، فنظموا فيه القصائد العصماء، التي تنوعت أغراضها ومضامينها بين تبادل التهاني والتبريكات، وبين التعبير عن الفرح والسرور بإطلالته المباركة، وبين بيان ما له من مكانة خاصة جدا في الإسلام، وبين الدعوة إلى الاهتمام به والتفاعل معه، وإلى غير ذلك من الأغراض والمضامين التي تناولها الشعراء وصاغوها في قوالب شعرية بديعة وجميلة إلى أقصى حدود الإبداع والجمال.

يقول محمد مبارك: (يستلهم الشعراء من فيوضات رمضان ونفحاته أفكارهم للتعبير عن فرحتهم بمقدمه، وبحزنهم لوداعه، وبدعوتهم لانتهاز فرصة حلوله للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات، وفعل الخيرات، والتمسك بالباقيات الصالحات)

وهذا عرض مختصر لبعض ما جادت به قرائح الشعراء من قصائد عصماء في مدح هذا الشهر العظيم والثناء عليه، وبيان بعض فضائله ومآثره وآثاره في نفوس وقلوب المؤمنين.

السيد (محمود الهاشمي) يثني على رمضان الثناء العاطر، ويشيد به إشادة كبيرة، ويشير إلى بعض ما فيه من الخير الكثير، والبركات الجليلة، مؤكدا عجز الجميع عن بيان فضله وعظمته، لأن فضله وعظمته فوق وصف الواصفين، بدليل أنه الشهر الذي أشاد به الدين، ومجده النبي والأئمة من آله الطاهرين، ثم يصف تلك الأجواء الإيمانية الروحانية الخاصة التي يمتاز بها شهر رمضان على غيره، والتي لها أبلغ الأثر بناء النفس، وتهذيب سلوك الإنسان، لينتقل بعدها إلى ذكر بعض الأحداث الرمضانية العظيمة، كنزول القرآن فيه، واختصاصه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومولد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام فيقول:

تباركـت أقدم مرحبا بك يا شهـر

لك الشكر فيما جئته ولنا الأجـر

تعـاليـت شـأنا عن ثنـاء يبثـه

لسان أديـب جاش في صدره الشعر

وأنـت الذي شاد النبـي بـذكـره

وقدّسـه الشرع المطهر والـذكـر

دعيـت بشهر الله، وهـي كرامـة

سمـت، وانحنى ذلا لعليائها الدهـر

 

تصـوم لك الأجسام عن شهواتهـا

فلا يعتري أرواحها الرين والـوزر

ليـاليـك شعـت بالعبـادة مثلمـا

زهت بجلال الصوم أيامـك الغـر

خصصـت بتكريـم لـو أن أقلـه

على الذر، فاق الطود في قـدره الـذر

خصـال ثلاث حققـت كـل غايـة

مـن الفخـر دون غـايتهـا الفخـر

ففيـك كتـاب الله أنـزل وانجلـت

بأنواره الظلمـاء وانكشـف الستـر

وفي ليلة القدر التـي جـلّ قـدرها

ولم يبـق للأيـام مـن بعدهـا قـدر

تنـزلـت الأمـلاك فيهـا وأقبـلـت

تحييـك حتى انشق عن صبحه الفجـر

وفيـك بدا فجـر الزكـي وأشـرقـت

سمـاء الهدى لما بدا الحسـن الطهـر

شعـاع تراءى مـن عـلـي وفاطـم

ونجم نمته الشمس في الضـوء والـدر

أما الشاعر الأمير تميم بن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، فيبين أن شهر رمضان هو شهر الإقبال على الله، وإخلاص النية في العمل، وأنه أرمض الذنوب، وأحرق السيئات، بسبب ما له من أثر في تنمية ملكة التقوى لدى الإنسان، والتي هي خير زاد له يوم القيامة كما يقول تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[2]، ثم يتمنى أمنية كبيرة وعزيزة على قلوب المؤمنين وأرواحهم، وهي ألا يكون رمضان شهرا واحدا فقط، بل يمتد ليكون سنة كاملة، بل أن يمتد ليكون الدهر كله، وذلك لما فيه من الخيرات والبركات، فيقول:

يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت

فيه الضمائـر والإخـلاص للعمــل

أرمضت يا رمضـان السيئـات لنـا

بشـربنـا للتقـى عـلا علـى نهـل

فـليـت ظلـك عنـا غـيـر منتقـل

بصـالـح وخشـوع غـيـر منفعـل

وليت شهـرك حـول غيـر منقطـع

صـوم وبـر ونسـك فـيـه متصـل

كما يحيّي مصطفى صادق الرافعي شهر رمضان، معبرا عن فرحته الكبرى وسعادته التي لا توصف بقدومه الميمون، ويؤكد أن رمضان إنما يقبل علينا بالخير والبركة والرحمة، وأن من عظيم بركاته أنه -وإن رحل عنا- إلا أن فضله باق، وخيره دائم، وأثره غير منقطع، فيقول:

فديتك زائـرا فـي كـل عـام

تحيّـا بـالسـلامـة والسـلام

وتقبـل كالغمـام يفيـض حبـا

ويبـقـى بعـده أثـر الغـمـام

وكم في الناس من كلف مشـوق

إليك وكم شجـي مستـهـام

ولا يختلف محمد حسن فقي عن الرافعي في تعبيره عن فرحته الكبيرة بقدوم شهر رمضان واشتياقه إليه، كما يصور تلك القلوب المؤمنة كيف تتلهف للقائه واستقباله، وقد رفع المؤمنون رؤوسهم نحو السماء الصافية يترقبون إطلالة هلاله بفرح واستبشار، ثم يخلص إلى تفضيله ليس فقط على كل الشهور من دون استثناء، بل يؤكد أن شهر رمضان المعظم هو سيد كل الأزمنة والدهور، فيقول في قصيدته عن رمضان التي زادت عن مائة وخمسين بيتا:

رمضان في قلبـي همـام نشـوة

من قبل رؤيـة وجهـك الوضـاء

وعلى فمـي طعـم أحـس بأنـه

مـن طعم تلك الجنـة الخضـراء

لا طعم دنيـا، فليـس بـوسعهـا

تقـديـم هـذا الطعـم للخلـفـاء

ما ذقت قـط ولا شعـرت بمثلـه

أفـلا أكـون مـن السعـداء؟؟!!

قـالـوا بأنـك قـادم، فتهلـلـت

بـالبشـر أوجهـنـا وبالخيـلاء

وتطلعت نحـو السمـاء نواظـر

لهـلال شهـر نـضـارة ورواء

تهفو إليه وفي القلوب وفي النهـى

شـوق لمقدمـه محسن ورجـاء

رمضان، ما أدري ونورك غامـر

قلبـي، فصبحـي مشرق ومسـاء

مـا أنـت إلا رحمـة ومحـبـة

للناس من ظلم شقـوا بـه وعـداء

فلقد كرمت من السمـاء بمـا أتـى

من وحيهـا، وشـرفـت بالإطـراء

سدت الشهور فأنـت سيـد عامهـا

بل أنت سيد دهـرهـا المتنـائـي

أما أحمد عبد السلام غالي، فيرى أن رمضان شهر عزّ أن تجد له نظيرا، وجلّ عن أن يكون له مثيلا، ذلك أن نفحاته الإيمانية تنقي القلب من كل الشوائب، وتغسل النفس مما ران عليها من الذنوب والآثام، وذلك من خلال الاتصال الروحي في هذا الشهر الفضيل بالملكوت الأعلى، حيث الله والدار الآخرة والنعيم المقيم، ثم يسأل الله عز وجل أن يحفظ لنا وعلينا نعمة الصوم، واللقاء الروحي به جل وعلا، سواء في شبع أم جوع، وعلى كل الحالات فيقول:

عـزّ شهـر يطيـب لـه اللقـاء

وهـو للقلـب نفـحـة وصفـاء

رمضان وكـم تفيـض المعـاني

عـن نـداه، وتـكـثــر الآراء

يـا إلهـي فا حفـظ علينـا لقانا

إن شبعنا وإن طـوانا الخـواء

وحدة الحـس والمشاعـر درب

لحيـاة يسـود فيـهـا العـلاء

رمضان كـرمت شهر وعـزت

بـك أيـامنـا وطـاب الفـداء

أنت شهـر القـرآن أنزلـه الله

وفيـه للعـالميـن الـهـنـاء

أما محمد الناصر الصدام فيؤكد أن شهر رمضان هو الشهر الذي تنزّل فيه الوحي المقدس على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله، وبهذا يكتسب رمضان قداسة خاصة، لأنه نقطة الانطلاق في إشراقة النور الإلهي على الدنيا ليبدد ظلام الكفر والشرك والوثنية، فيقول:

 

شهـر أزاح عن الدنيـا دياجيهـا

فأشـرقـت بعد الظـلام لياليهـا

شهر به لاح نور الحـق منبلجـا

فاهتزت الأرض إجلالا وتنويهـا

لله كم أبـرزت أحـداثـه قيمـا

سمت، ولمـا تزل تسمـو معانيها

فيـه تنزلـت الآيـات محكمـة

تنهى عن الشر والبغضا نواهيهـا

إن الشعوب إذا أبنـاؤها صلحـوا

لبوا إلى صالح الأعمـال داعيهـا

كما أن أبا بكر، عطية الأندلسي، يؤكد على أن الصوم ليس فقط عن الطعام والشراب، وإنما هو صوم الجوارح عن الذنوب والآثام، وأن من لم تصم جوارحه فليس بصائم وإن توهم ذلك، بل ليس له من صومه إلا الجوع والعطش كما تثبت ذلك الأحاديث الشريفة، فيقول:

إذا لم يكن في السمـع منـي تصـاون

وفي بصري غض وفي مقولي صمـت

فحظي إذا من صومي الجـوع والظمـا

وإن قلت إني صمت يوما، فمـا صمـت

كما يقول أيضا:

ما الخير صوم يذوب الصائمون له

ولا صلاة ولا صوف على الجـسد

وإنما هـو تـرك الشـر مطـرحا

ونفضك الصدر عن غل ومن حسـد

ولا يختلف عنه الصابي حين يقول مقرعا من يصوم عن الشراب والطعام، ولا يصوم عن الظلم والحرام:

يا ذا الذي صام عن الطعـم

ليتك صمـت عـن الظلـم

هل ينفع الصوم امرؤ طالما

أحشاؤه ملأ مـن الإثـم؟!!

ومن قول أحمد علي طه في تقديم التهاني والتبريكات بحلول شهر الخير والرحمات:

أحيي القـوم بالشهـر الكريـم

تحيـة شـاعـر لبـق فهيـم

فإني قد عرفـت القـوم حقـا

مشاعرهـم أرق مـن النسيـم

وبـاب الكل مفتـوح لضيـف

أتى يشكو مـن الألـم الأليـم

ففي رمضان يحبس كـل شـر

ويحبس كـل شيطـان رجيـم

بشهر الصوم أرجو أن تشيـدوا

بحسـن الـصـوم لله الرحيـم

وهناك الكثير مما جادت به قرائح الشعراء في تمجيد شهر رمضان والإشادة به وبفضله، وبيان ما يجب أن يكون عليه الإنسان المؤمن أثناء الصوم من التزام بالقيم الفاضلة، والأخلاق الكريمة، والآداب العظيمة، والسجايا الحميدة، والمثل العليا، والتأكيد على ضرورة المحافظة على حرمة هذا الشهر، وعدم انتهاكها بالذنوب والمعاصي، كما تشمل تبادل التهاني بحلوله، والدعاء بالتوفيق لصيامه وقيامه وقبول ذلك منا بأحسن قبول.

وكل ما ذكرناه الآن ما هو إلا غيض من فيض، أو قطرة من بحر، مما ورد في ذلك، نسأل من الله عز وجل أن يكتبنا من الصائمين القائمين، وأن يتقبل ذلك منا بأحسن قبول.

[1]/ سورة الشعراء الآيتان 88-89

[2]/ سورة البقرة الآية 197

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى