أقلام

بتول ..بصمة عطاء وقصة وفاء (ج١)

رباب حسين النمر

على وجهها ترتسم ابتسامة ما غابت إلا بغيابها، وفي خُلُقها لين جانب وبذل قلّما تجد له مثيلاً.
وجه محبوب بشوش ودمث، أينما حل ينشر عبق الحنان وأسمى معاني الحب..
ذلك هو الجانب الذي يشعر به الجميع تجاه بتول، وكفالتها وتربيتها لأيتام تسعة لم يذوقوا مرارة اليتم إذ تكفلتهم الأخت ذات السبعة عشر ربيعاً، التي اختصرت الأعوام وأصبحت أماً منذ الصبا تساند والدها في رعاية إخوتها وأخواتها الصغيرات الذين مذ تفتحوا على الحياة لم يعرفوا أمّاً سواها. تقوم بشؤونهم باسمة باذلة محبّة، فتوقظهم في الصباح الباكر لتحممهم وتجفف أجسامهم، وتمشط شعورهم وتعقص جدائل الصغيرات، وتغسل زيهن المدرسي ثم تكويه، وتقدم لهم جميعاً طعام الإفطار. يعودون من مدارسهم فيجدون طعام الغداء. تنتظرهم لذته العجيبة ورائحته الزاكية. ثم يلتفون حولها لتراجع معهم دروسهم وتشرح ما استغلق عليهم فهمه.

بتول الأم التي تخرج على يديها جيل ناجح وصالح من التربويين والأطباء وأعضاء المجالس البلدية والعاملين لله.

الوجه الآخر الذي غاب عن المجتمع وانغرس في قلوب اليتامى وتأصل في دواخلهم حتى غدا فقدها كارثة حلت بهم أو قارعة قصفت بأرواحهم وشعور حقيقي باليتم قرّح جفونهم، فعجزت ألسنتهم عن وصف عطائها، وقصر الكلام عن بلوغ التعبير عن منزلتها وعن معنى العطاء والتضحيات التي بذلته لليتامى التسعة ولسواهم ممن حولها.
كانت بتول في تجارة مع الله تعالى، كانت جامعة متحركة تفيض تعليماً لكل من حولها لمبدأ (لله)، تقدم على بيع ما تمتلكه من مصاغات لتساعد المحتاج، وتتبرع بالبركات للمجالس والمآتم الحسينية، فلا تدخل إلى المأتم يومياً إلا بكميات كبيرة من الفواكه والمأكولات لتوزعها على حب الإمام الحسين عليه السلام.

لم تعرف بتول معنى الراحة مذ تفتح وعيها على الحياة، كانت كتلة من العطاء والعمل والنشاط ونكران الذات والبذل للآخرين.
أنهت المرحلة الابتدائية بتفوق منقطع النظير، تمتاز بعقل رياضي يجري الحسابات بأقصى سرعة، ولكن الظرف العصيب الذي مرت به والدتها من المرض اضطرها إلى إلغاء مشروع إتمام دراستها لتساعد والدتها على تربية أطفالها. ولم تكد تبلغ السابعة عشرة من ربيع عمرها حتى تحولت إلى أم وصاحبة منزل بوفاة والدتها رحمها الله وانتقالها إلى الرفيق الأعلى. لتجد أمامها فجأة تسعة كواكب ليس منهم من اعتمد على نفسه وتزوج سوى أختها أسماء، ومن جميع المراحل العمرية
ما بين عام،وعام ونصف، وعامين، وثلاثة أعوام ونصف، وأربعة أعوام ونصف، مع والد يشكو ضيق ذات اليد لا يملك من حطام الدنيا غير قوت يومه، يمتهن خياطة البشوت فيقبض عن البشت الواحد ثلاثمائة ريال، ومنها يشتري طعام العيال ويسدد فواتير الماء والكهرباء والهاتف، بذل كل ما بوسعه حتى ضعف بصره واستهلكته الخياطة في سبيل تربية عياله وتنشئتهم، تضحيات لا يمكن إغفالها أو نسيانها..
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى