أقلام

فقد الحبيب المحبوب

الشيخ عبدالجليل البن سعد

لازالت انباء ترجّل الأحبة  من ذوي الفضل عن ظهر مطية الحياة تخرق آذاننا ويسري ألمها في قلوبنا، ولا عزاء إلا فيما نرجوه لهم من الرحمة الوارفة والمغفرة الواسعة وليد ما يمسكون به من أسباب ملكوتية قوية و حبال إلهية متينة، وإن الشيخ الكريم حبيب الصعيليك أبا محمد ممن لم تنفصم  بقبضته عرى الأخلاق الحميدة، ولم تحل من معصمه أواصر التدين الوثيقة، فهو من الطلبة الذين أمضوا في خدمة العلم والتعلم والتعليم أربعة عقود من عمره وقد ظل يمثل بمواقفه ونشاطه الشخصيةَ الرسالية أروع تمثيل.

الاستهانة بالدنيا:

رب طالب علم بدأ فقيرا ثم انحازت إليه الدنيا او انحاز هو اليها ـ والعياذ بالله ـ ولكن من بين الطلبة رجال ضحك لهم الحظ الدنيوي بثغر عريض وهم في مقتبل العمر إلا أنهم عبسوا له عبوس معرض مستغنٍ بالحظ الأخروي، وإن سماحة الشيخ الفاضل كان من بين منسوبي شركة البترول ارامكو فاستقال منها، وأشاح عما كانت ستهب له من راحة و رفاهية ورغد في العيش ليهب نفسه لدينه و مجتمعه فشد الرحال إلى قم أرض الآمال ثم عاد إلى أرضه العطشى وبقي يرويها نضحا وسقيا دون ملل، إنها إرادة ذوي الإربة غير ذوي الريبة الذين هبوا نهوضا على وقع سماعهم النداء{لمثل هذا فليعمل العاملون}.

 

مشعل من مشاعل العطاء:

ان اقبال رجل العلم على خدمة الدين والمجتمع بكله يكشف عن علاماتِ تميزٍ نفسيةٍ وفكريةٍ وأجدرها بالاشارة القابلية الصاعدة التي تتمدد بتمدد الأيام فلا تخضع لهرمون الملل والسأم النفسي، ولا هرمون الشيخوخة الجسدي حتى وان بدت حركة الاهتزاز على ظعن العمر إيذانا بساعة الترجل!!

وهكذا فمن النادر ان تجد من رجال العلم من يجمع بين الصلة بالخطابة و الصلة بإمامة الجماعة، ثم دروس الحوزة، والارشاد في حملات الحج والعمرة باستمرارٍ يمتد لعقود، زائدا على فرص التبليغ المتنوعة بتنوع المناسبات، ولكن هذا كان مكشوفا وواضحا في حياة فقيد الأحساء وحوزتها.

ممن يستراح لدينه:

يتمتع هذا الانسان الدّيّن بجماليات روحية تلمع في جبينه تارة وتتجلى على لسانه أخرى ومن أشد ما احترمه فيه واحفظه له احتياطه للدين احتياطا غير متصنع.. كان يهتم للحكم الشرعي ويتابع تفاصيله، وان طريقته في التحري ترسم منهاجا لاخوته وزملائه، ففي العام ١٤١٦ للهجرة سألني هل تعلم كم مرة قرأت مناسك الحج لأتحمل مسؤولية ارشاد الحجاج؟

ـ كم ؟؟

ـ لقد اتممت قراءته سبع مرات وأنا أتهيأ للمجيء هذه السنة!!

كما كان يميز الرجال المسنين في العلم حسب دقتهم في نقل الفتوى وهذا ما كشف لي عنه  كما حدثني آنذاك بقناعته التامة وسكونه إلى بعضهم المعين وقد جعله مستقى يستقي عنه الفتوى الشرعية.

 

الابتلاع المعنوي للصدمات:

تنتصب النفسية لدى البعض كشاشة تتغير ألوانها وصور عرضها مع طوارئ الحياة ومفاجآتها المحسوبة وغير المحسوبة فإذا بالبشوش قد اكفهر وبصاحب الحكمة قد فَقَدَ السيطرة وبذي القدم في المجتمع قد تراجع تحت وطأت الظروف، ولا يصمد جذع أحد أمام هذه الحالات إلا من كان له جذر معنوي، وهناك أكثر من حالة من حالات الصعوبة التي تثني العزائم أو تحبب للانسان الانعزال مرت على الشيخ الحبيب لكنه كان يسبح على ظهر قارب معنوي يقيه السقوط في التيار الجارف.

فعصفت بمحله رياح صفراء وربما كانت أغمق ولكنه حاول أن يقبض على ريشتي ميزان الحكمة رغم ان الرياح التي هبت من شمال عاودت محلها بعد سنين من قبل الجنوب وإذا هو هو ! 

قد نضع هذا في حساب الحكمة او سعة الصدر ولا أظن بجميع من عاشره إلا الاتفاق معي على أنه منشرح الصدر، الحالة التي جعلته مرغوبا في انشطة السفر الديني كالحج لما تحتاجه أجواء الحج والعمرة والزيارة إلى راحة البال والأناة وهذا ما تيقنت به من وصفه بعد كثرة السنوات التي جمعتني به في رحاب بيت الله عز وجل فكنت أراه صخرة ثابتة لا تتفتت لأدنى ارتطام مع الامزجة المتناقضة التي قلما تجتمع في ساحة كساحة مكة المكرمة لا سيما في تلك السنين الطاوية بل لم يكن يحتاج لابتلاعه ان يفتح شفتيه إلا بمقدار ابتسامته المألوفة فينتهي كل شيء، وان هذا لم يكن ليترك لدى من يعرفه انطباعا  عنه بالضعف او الانهزامية بل هو حسن التقدير للموقف، و أنا أشهد بمعية بعض اصدقائه القدامى أنه لا يتنازل للخطأ ولا يسمح بتمريره دون عذر، ولكنه يتحين المناسبة الأمثل للعلاج وكثيرا ما يتعقب اصدقاءه ويناقشهم في تصرفاتهم على انفراد بمكالمة او مقابلة.

 

 

الثقة بالله “عز وجل”:

و على الصعيد الذاتي كان قد أصيب بثقل في اللسان استمر معه فترة ليست بالقصيرة ولكن هذه العاهة لم تثنه عن ادواره التي يرى واجبه فيها، وبعد ان انماطت عنه سألته: هل تحصلتَ على العلاج أخيرا؟

اجابني ليس من علاج ولكن عقيدتي التامة ان هذا ما تيسر لي بدعاء إخواني المؤمنين حيث زالت العلة بشكل تلقائي.    

 

الشعبية الرقيقة:

موطَّأُ أكنافِ السّماحِ، دنَتْ بهِ. خَلائِقُ زُهْرٌ، إذْ أنَافَ نِصَابُ

 

هذه هي مصوغة ابن زيدون شاعر الاندلس لبعض درر النبي صلى الله عليه واله:””أفاضلكم أحسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم””.

منذ أول اجتماع لنا في رحاب الرحمة الالهية جذبني بشعبيته وبقي يدلل على احترامه للعشرة فلم يكن متكلفا بل كان متألفا يدعو للقاء بعد اللقاء، ولقاؤه يدعو للحديث والشفافية فكم كان بيننا من الهمسات ـ وليس فيما ينسى احاديث الليالي في مخيمات منى وغيرها ـ  وستطوى بعده طي السر إن شاء الله تعالى.

 

سليقة عربية قويمة:

الميول الأدبية تختلف في طبيعة ما تشير إليه من جوانب روحية وفكرية ونفسية ففي أي من الناس وجدت فإنها تظهر ما يخفيه في طيات وجدانياته من مهارة خطابية أو حس أدبي أو عشق للقرآن والنصوص الدينية عموما لان معانيها لا تطاوع الا من لديه شيء من تلك الميول.

وكان هذا الشيخ ذا قريحة أدبية لطيفة واستاذا متمكنا من تدريسها باستطاعتك ان تلمس هذا الجانب على مشاعره قبل ان تسمع إلى بيانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى