أقلام

ما بين تبوك وجيش أسامة

محمد بوخمسين

أشرقت شمس آخر الرسالات السماوية بمبعث خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله -ص- في مكة، وخلال ثلاث وعشرين سنة تلت بعثته انتشرت كلمة الله بين الخلق في الحجاز والبحرين واليمن وأطراف الشام وغير ذلك، بيد أنه كسائر المرسلين فقد واجه -ص- صعوبات كثيرة واضطر لخوض معارك في سبيل إعلاء راية الدين، ورغم الاختلاف بين فرق المسلمين في تفاصيل الدين وتاريخ النبي -ص- وما بعده، إلا أنه لا يختلف اثنان من المسلمين في فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -ع- حيث كان أول من آمن برسالة الإسلام وقد كان ربيب رسول الله -ص- منذ ولادته في بيت الله تعالى حتى رحيل النبي -ص- في حجره، وما بين تلك وتلك وردت فضائله -ع- بما لا تحصيه الصحف حتى آمن الشيعة بأنه هو الخليفة الشرعي للمسلمين بعد وفاة النبي -ص-، قد استدلوا على ذلك بما ورد في كتب السيرة من فضائل وأحداث عظيمة كحديث غدير خم واستخلافه على المدينة في غزوة تبوك والكثير من الروايات التي صرح فيها النبي -ص- بذلك سواء بألفاظ مباشرة أو غير مباشرة، إلا أن الأمور آلت بعد رحيل النبي -ص- إلى غير ذلك كما هو معلوم، وأود في هذا المقام أن أشير أشارات مختصرة إلى بعض العوامل التي تسببت في ذلك.

“أقضاكم علي”، “أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها”، “يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلى أنه لا نبي بعدي”، “يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق”، “ضربة علي يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين”، “لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، كرار غير فرار”، “من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله”، “علي مع الحق والحق مه علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض”، كل هذه وغيرها من الآيات القرآنية والروايات الشريفة الثابتة والمعروفة عند كافة المسلمين كانت كافية لتمييز الحق من الباطل، إذ اجتمع المؤمنون على ولاية علي -ع- بينما تأججت نار بغضه في قلوب المنافقين، ومع كل قول وفعل يصدر عن النبي -ص- يزدادون يقينا أنه -ص- يمهد لاستخلاف علي -ع- على هذه الأمة، حتى إذا كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوات رسول الله -ص- في العام التاسع للهجرة، حيث خرج -ص- في قيادة الجيش مع علمه بتدبير المنافقين من ورائه فاستخلف عليا -ع- مكانه في المدينة، ولذلك عدة دلالات منها أنه -ع- هو خليفة رسول الله -ص- حين غيابه ولا غيره بالإضافة إلى إفشال خطط المنافقين في المدينة في حين خلوها من القوة العسكرية، فلم يجدوا سبيلا غير محاولة اغتياله -ص- في طريق العودة إلى المدينة وقد ورد تفصيل ذلك عند الفريقين إذ سلك -ص- طريقا مستقلا عن الجيش ومعه عمار بن ياسر -رض- وحذيفة بن اليمان -رض- إذ خرج إليهم جمع من المنافقين يريدون دفعهم من فوق العقبة ولكن الله سلم من ذلك وقد أعلم -ص- عمار وحذيفة -رض- بأسماء المنافقين ولعلنا نجد في كتب الحديث أسماء بعضهم.

واستمرت المحاولات لإطفاء نور الله -ص- وعلي -ع- يزداد شأنا وفضلا عند المسلمين حتى حان وقت تسديد الضربة القاضية لهؤلاء المنافقين بعد حجة الوداع مباشرة، حيث نزلت الآية:” يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس”، وتكفي الإشارة لأهمية الغدير في قوله تعالى أنه جعل كل جهود النبي -ص- ورسالته مرهونة بتليغه رسالة الغدير حيث نصب بشكل قاطع عليا -ع- خليفة على المسلمين بعده أمام كل من حضر حجة الوداع وبايعه عامة الناس وقد بلغوا على بعض التقديرات مائة ألف شخص، وكان ذلك قبل وفاته -ص- بأقل من ثلاثة أشهر، غير أن المنافقين واصلوا غيهم حيث كانوا أقرب للنبي -ص- في أيامه الأخيرة سعيا لمنعه من القيام بأي خطوة في موضوع الخلافة من بعده، حيث كان دائما ما يوصي المسلمين وفي سبيل منعه فقد انتهجوا أحقر وأرذل الوسائل حيث كانوا يثيرون الفوضى والنزاعات كلما أراد -ص- أن يوصي، حتى يوما طلب دواة وكتفا (أي ورقة وقلما) ليكتب للأمة كتابا لا تضل بعده أبدا، فاستهزأ منافق بالنبي -ص- حينها قائلا أنه يهجر وأنه قد غلبه الوجع -والعياذ بالله- فغضب المسلمون واشتد النزاع عند النبي فغضب -ص- وأمر بخروجهم، إذ كان مدركا لما يرنون إليه من غاية شيطانية.

وفي نهاية صفر أي قبل شهادته -ص- بأيام قليلة أمر بتشكيل جيش للحرب ضد الروم ونصب لقيادة هذا الجيش الصحابي أسامة بن زيد وقد كان في سن الفتوة حينها، وقد أمر بشكل قاطع ومتكرر كل رجال المدينة بالالتحاق بهذا الجيش حيث قال -ص-:” أنفذوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة”، وأمر عليا -ع- بالبقاء ليلي أمره بعد وفاته، وأجزم أننا جميعا نعرف هذه الحادثة جيدا منذ صغرنا إلا أن الأغلب لم يدرك أهمية هذه العملية والرسالة من ورائها، حيث كانت خطوة منه -ص- لجعل الساحة فارغة أمام أمير المؤمنين -ع- وذلك بإرسال الجميع بما فيهم المنافقين بعيدا حتى يتم له الأمر بالخلافة بدون مشاكل، بالإضافة إلى أنه قد أمر على هؤلاء المنافقين فتيا حتى لا يكون لهم الفضل في القيادة على المسلمين في آخر أيام حياته -ص-، فما كان منهم إلا أن أشهروا نفاقهم لاستغلال آخر فرصة حيث استحقوا اللعنة بمخالفتهم أمر النبي وبقائهم في المدينة حتى وفاته -ص- ليكون منهم ما كان من هتك لحرمته ومخالفة لوصيته -ص-.

وبالتأكيد فإن الأحداث كثيرة ومتشعبة، وما هذه النتيجة إلى من باب إقامة الحجة من النبي -ص- على الناس في أمر الخلافة، وإلا فإنه قد كثرت وصاياه لأمير المؤمنين -ع- بالصبر على ما يكون بعده من انتهاك للحرمة وغصب للحق، وكل عزائنا في هذا اليوم للحجة بن الحسن -عج- بشهادة جده المصطفى -ص- جعلنا الله من أنصاره والطالبين بحقه وثأره يوم يملأ الأرض عدلا وقسطا بعدما ملئت ظلما وجورا.

المصادر:

منتهى الآمال ج1 للشيخ عباس القمي
مؤتمر السقيفة للشيخ باقر شريف القرشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى