أقلام

قراءة في كتاب (المطيرفي والذاكرة)

علي عيسى الوباري

حين يؤلف كاتب مهتم بالشأن الثقافي والاجتماعي كتابًا، أسس من قبل موقعًا اخباريًّا يهتم بشئون الأحساء المختلفة، هذا يدل على أن المؤلف يهتم بالمجتمعات وتاريخها، ويؤمن بضرورة توثيق حياة الأشخاص الذين عاش معهم في موقع جغرافي (قريته)، وشارك مع أخوة وأصدقاء في التنمية المجتمعية الشاملة.

يعد تأسيس موقع إلكتروني إخباري ثقافي في زمن الصحف والمجلات الورقية استشراف للمستقبل، ومعرفة مسبقة بأن المواقع الإلكترونية هي المنافسة للجرائد والمجلات التقليدية التي اعتادها القارئ، بل ستكون هي المسيطرة إعلاميًّا ولا سيما في مناخ ثقافي لا يزال يعتقد أن استبدال الصحف بالمواقع الإلكترونية مخاطرة وسابقة لأوانها قبل 20 سنة، وربما تبوء بالفشل، وما فعله الأخ العزيز عبدالله عبدالمحسن الجاسم في موقع (المطيرفي الإخباري) خطوة جريئة بإمكانات محدودة، استمر الموقع الإخباري والثقافي كإحدى الواجهات الإعلامية ينقل وينشر نشاطات وبرامج الأحساء الاجتماعية والثقافية، ووجد كتاب المقالات والخواطر والشعر فيه ضالتهم بنشر ما يكتبونه وتوثيق الفعاليات، موقع المطيرفي الإخباري المعبر عن بلدة ارتبط تاريخها القديم بشخصيات مميزة، وبمواقع أثرية تاريخية وعيون مياه وأنهار، المطيرفي بموقعها الجغرافي الشمالي بالنسبة للأحساء التي تبدأ منها نسائم الهواء وتسبق غيرها بجني الرطب، وثمار الأشجار التي تسبق ما بعدها في الموقع الجغرافي جنوبا، المطيرفي لها من نظرية الشمال الاقتصادية نصيب فهي تمتاز بخصوبة التربة وعيونها المائية، ويتميز أهلها بالكدح والسعي للرزق وإثبات الذات.

مشروع ثقافي توثيقي ما قدمه أبو محسن في كتابه الثري (المطيرفي والذاكرة) وعنوان فرعي (شخصيات عاصرتها وعرفتها) بتاريخ البلدة الطويل تستحق ما يكتب عنها وعن شخصياتها الذين لهم تاريخ اجتماعي كريم بعلاقة أخوية وصداقات شخصية مع الكاتب.
بدأ المؤلف كتابه بمقدمة جميلة عن ملامح المجتمع الريفي القروي الأصيل الذي يعيش الألفة والتكافل والتضامن، يبدأ مجتمعًا صغيرًا متحابًّا ينمو منسجمًا يعرف بعضه البعض، ويتداخل بالنسب والمصاهرة، ويعزز العلاقات الأسرية بالحب والتعاون.

القرية الأحسائية لها خصائص ربما تختلف عن القرى التي تحدث عنها علماء الاجتماع، مجتمع يجمعه المكان المقدس مثل المسجد والحسينية والفعاليات الدينية والاجتماعية والزيارات العائلية وإصلاح ذات البين، ويتميز بالطيبة والبساطة والحيوية والتكافل والحفاوة.

التربة الأحسائية متزينة بالنخيل والأشجار المتنوعة، ومحاطة بعيون وأنهار، وأن اختفت هذه الأنهار ونضبت، إن معظم العيون ما تزال في ذاكرة الأجداد والآباء الذين ينقلونها إلى أبنائهم بحسرة وألم.
كتاب المطيرفي في الذاكرة مكون من ٢٦٩ صفحة، قسمه المؤلف إلى ٥ أقسام، بدأ المؤلف بالقسم الأول، بعنوان المطيرفي في الوجدان ذكر موقعها الجغرافي وحدودها مع ما يجاورها من قرى ومدن وشكلها القديم، ذاكرًا عيونها، وتطرق إلى الأحياء والسوابيط، السوابيط تقترن بأسماء أصحابها ومن قام بها، الساباط هو على شكل ممر بين جدارين بشارع مسقوف بجذوع النخيل أو الخشب للتظليل والحماية عن حرارة الشمس ويقصد للتجمع والجلسات.
كما ذكر المؤلف في هذا القسم المحلات التجارية والدكاكين والبسطات وأصحابها، وأيضًا المساجد والحسينيات التي تعد من أهم مراكز التجمع بالقرية تمارس فيها العبادات الواجبة والمستحبة، وإن كانت مواقع عبادة، ولكن تدور فيها أحاديث اجتماعية ولقاء أخوة وأقارب وتفقد أخبار الأسر والأفراد. وأشهر مسجد بالمطيرفي هو مسجد العباس، وله تاريخ في ذاكرة المجتمع الشيعي يزار ببعض المناسبات. وتعد أقدم حسينية بالمطيرفي عمرها 150 سنة وهي حسينية المهنا، وحسينية الفضل أسست عام 1378 هجري. المساجد والحسينيات أماكن لتعزيز الروابط العائلية والاجتماعية، وعلامة على انسجام وتعاون المجتمع.

كذلك تطرق بهذا القسم عن بعض الأنشطة المتعارف عليها بقرى الأحساء مثل الختمات، ومراسيم الزواجات العائلية والجماعية، والأنشطة الرياضية مثل تأسيس النادي عام1395هجري، وهي نقطة تحول بالعمل المؤسسي بالبلدة.

القسم الثاني ذكر فيه بعض العادات والتقاليد المتعارف عليها بقرى الأحساء مثل المقاهي الشعبية وما يحدث فيها من سرد قصص وحكايات وألعاب شعبية، كذلك ذكر المهن الحرفية مثل الزراعة والفلاحة وما تتضمنه من أعمال مساندة وذكر أدوات المنازل وما يستخدم في الزراعة من آلات، حتى أنواع الملابس الرجالية والنسائية تضمنها هذا القسم ولم ينس ذكر مفردات وكلمات خاصة بالمطيرفي وهي مشتركة بقرى ومدن الأحساء ربما يختلف النطق أو تتبدل بعض الحروف.

في القسم الثالث تطرق الكاتب إلى المدارس وهناك مدراس تقليدية قامت بها عوائل يعلمون القراءة والكتابة والتلاوة القرآنية، وتطرق إلى المدارس النظامية التي تعد نقلة نوعية في المجتمع بالمطيرفي، تأسست أول مدرسة ابتدائية رسمية عام1385 هجري، أيضًا ذكر في هذا القسم شخصيات دينية علماء وشيوخ قاموا بأدوار متميزة في تنمية المجتمع وتوعية الناس على رأسهم الشيخ أحمد زين الدين الذي يعد تاريخًا في ذاته وعلمه، وتطرق المؤلف إلى الخريجين الاكاديميين الذين بدأوا مرحلة جديدة في البلدة بمشاركتهم في تحسين وتطوير الخدمات مثل المعلمين والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال.

القسم الرابع عنونه المؤلف (العلماء الذين لم يهاجروا وممن عاصرتهم) وثّق اسماء شخصيات اعطت وما تزال تعطي، ولهم بصماتهم في بلدة المطيرفي وكانت لهم تأثير إيجابي من خلال علاقاتهم مع المؤلف.

أما القسم الخامس والأخير فكتب عن شخصيات اعتبرهم أصدقاء وأخوة وعددهم ٧٥ شخصية، ذكر صفاتهم وخصائصهم الشخصية وما تركوه من ذكريات في واقع المطيرفي وفي شخصية الكاتب، هؤلاء منهم مات ومنهم ما يزال في عطائه، هم رفاق الدرب والنشاطات الاجتماعية، بنوا ذواتهم بجد واجتهاد وساهموا في تنمية مجتمع المطيرفي، اسهب المؤلف في ذكر الشخصيات، وهذه دلالة على أن المؤلف أبو محسن له علاقات أفقية وعمودية مع أخوة من مختلف الأعمار ومتعددي الأدوار والنشاطات، بحيث يرى الكاتب أن من ذكرهم منقوشة أسمائهم في لوحة شرف مدينة المطيرفي بما قدموه لمجتمعهم، ضحوا بأوقاتهم وأموالهم من أجل تطوير بلدتهم كل حسب ما يتقن.

أنهى المؤلف كتابه بخاتمة مختصرة ذكر فيها علاقة المجتمع بالعمران القديم والحديث، وبخصائص الأفراد التي تشكل سلوكًا نتجت عن معتقدات دينية وموروثات اجتماعية وتعليم واكتساب مهارات ساهمت في البناء والتنمية، ويرى الكاتب ضرورة الحفاظ عليها في زمن التغريب وطمس هوية المجتمعات التقليدية من خلال التدفق المعلوماتي والثقافي البعيدة عن موروثات المجتمع المتصالح والمتضامن والمتعاون، وبالإمكان تعزيز قيمه بالعلاقات البينية بين الأشخاص والعوائل.

كتاب المطيرفي والذاكرة سلط الضوء على الفرد والمكان وما أنتجه من عادات وتقاليد التي بها قام وأسس تاريخ بلدته بناء على موروثاته الدينية والاجتماعية وما اكتسبه من تعليم حديث وإدارة مؤسسية تنموية ساعدت على التغيير ومواكبة المتغيرات الاجتماعية والثقافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى