أقلام

هويات متجذرة وأمان مجتمعي

السيد فاضل آل درويش

ورد عن أمير المؤمنين (ع): (النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْق )( نهج البلاغة ج ٣ ص ٨٤ ).
هل يمكن للبشرية المختلفة في آرائها وثقافاتها أن تعيش بنحو آمن بعيدًا عن القلاقل والعصبيات؟
الاختلاف الفكري والقيمي سنة لا يمكن أن يجتمع الناس في هوياتهم وانتمائهم على فكرة واحدة، والعلاقات بين أفراد المجتمع الذي يتمتع أفراده بالاحترام المتبادل هي عماد الاستقرار والأمان، فالتوفيق بينهما وصياغة العيش المشترك مع عدم المس بالتجذر والتعمق في الهويات يكمن في الرجوع إلى مبدأ الوحدة في أصل الوجود.
فأي مبدأ إنساني مشرق ذلك الذي يطرحه أمير المؤمنين (ع) فيحفظ به السلم والتعايش بين أفراد المجتمع ويجنبهم ويلات الخلافات والتطاحن المفضي للتشرذم والضياع، مبدأ احترام الآخر في وجوده وهويته وإن كانت هناك تنوعات فكرية ودينية، وهو ما يعبر عن الحكمة والنضوج الفكري هو بداية فكرة صياغة المجتمع الواحد مع اختلاف أعراف وتوجهات أفراده، إذ القبول بالتواجد على المعمورة مع وجود التنوعات يعني مد يد التعاون والبناء مع احترام ما يؤمن به الآخر، وهذا لا يعني أن تقبل وتقر وتلتزم بما يحمله ويؤمن به، بل يبقى كل فرد على ما يحمله من قناعات ومباديء دون التعرض بسوء للمكونات الأخرى، بينما الخيار الآخر هو رفض هذا التنوع – الذي نراه منذ وجود البشرية – والذي يؤدي إلى ظهور حالات العنف والقهر الاجتماعي وتهميش الآخر لمجرد الاختلاف معه، بينما الحقيقة الواضحة أن هذا التنوع على المستوى العقائدي والثقافي والفكري سيبقى مهما كانت هناك محاولات لإخفائه وتذويبه قسرًا.
هذا التنوع البشري على مستوى الأفكار والقناعات يفضي إلى معرفة أهمية التعايش بينهم، إذ أن العلاقات بين أفراد المجتمع إذا سادها الاحترام والألفة كان ذلك ركيزة السعادة للأفراد والازدهار والتقدم في عملية التنمية المجتمعية.
مفاتيح الحياة الهانئة والعلاقات المستقرة والفاعلة تستظل بمظلة الأمان المجتمعي، والذي يحفظ لكل فرد وجوده وطمأنينته من أي تجاوز على توجهاته ومعتقداته، فالاختلاف أمر طبيعي بين الناس إذ ينظر كل واحد منهم لهذا الكون والأحداث التي من حوله بعين معينة تنبثق من وجهات نظره الفكرية، وهذا لا يعني أن نحولها إلى خلافات يتطاير منها الشرر وترتفع منها ألسنة دخان الحدة و العصبية والقطيعة، فهذه البشرية على امتدادها عاشت منعطفات العصبيات التي عصفت بها واكتوى الناس بنار الكراهيات منها. فما الذي جناه الناس غير الخراب وويلات الدمار وآلام الذعر والتخوف من سهام الاقتتال؟!
النظريات الاجتماعية الناجحة اليوم تدعو إلى هدوء مجتمعي قائم على مبدأ التعايش والحفاظ على السلم الأهلي وإن تنوعت الأعراق والأديان، فهذا الاختلاف لا يعني الدخول في مناكفات تفقدنا حلاوة التفاهم والاحترام المتبادل وتحرمنا من الإحساس بالاستقرار النفسي والإسهام كيد واحدة في ازدهار مجتمعاتنا، بينما الانسلاخ من القيم الإنسانية و الدخول في الدهاليز المظلمة للعيش البدائي والانضمام لقانون الغاب، والذي يعني التسيد – لا على أساس التكامل النفسي والأخلاقي وامتلاك مباديء التعامل الراقي – وإنما هو فانون القوة والانتهازية وانخرام الألق الاجتماعي والانحدار نحو التخلف و الرجعية القائمة وفق الميول العنصرية والعقول المتحجرة، المميزة بين التعامل الحسن مع من ينتمون لنفس هويته وبين التعامل بالعصبية والكراهية امن يختلفون معه في توجهاته، وهو ما يعني إحداث الفوضى في المعيشة وتفكك روابط التفاهم والتعاون والإخفاق في توفير الحياة الهانئة لذلك المجتمع.
الاختلاف إذا تمت إدارته إنسانيًّا بعيدًا عن التعصبات كان ذلك مؤشرًا على الرقي الفكري والسلوكي والقدرة على مواجهة الاختلافات من خلال تقبل الآخر، فمن حق كل إنسان أن يمارس معتقداته وفق المنهج الذي يؤمن به، ولكن لا يعني ذلك التعرض لتوجهات الآخرين بالسخرية والشتم، فالإنسانية الجميلة قادرة على حفظ العلاقات الحسنة مع مختلف التوجهات، وحتى في حالة إبداء وجهات النظر و تقديم الأطروحات فهي تمر بقناة الحوار الهاديء، فلغة العيش المشترك تعني النظر للآخر بعين الاحترام والتقدير بعيدًا عن انتماءاته الثقافية والعقائدية، فهناك نقاط اشتراك كثيرة يمكن العمل على تحقيقها وخصوصًا العمل على تنمية أفراد المجتمع والرقي بشخصياتهم، فالإنسانية المكرمة متى ما أعلينا شأنها وحفظناها في المكان اللائق بها، سنجد أن خصوصيات الفرد لا تهم ما دام يتحلى بأسس العيش المشترك واحترام الآخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى