أقلام

التسامح مع الآخرين والتصالح مع الذات في الوصايا النبوية

فاضل آل درويش

ورد عن رسول الله (ص) : ألا أدلكم على خير أخلاق الدنيا والآخرة؟
تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك)(الكافي ج ٢ ص ١٠٧).
في زمن طغت فيه النبرة المادية والانحياز نحو المصالح الضيقة والبعد عن القيم الإنسانية النبيلة، نجد هذا القبس النبوي يأخذ بأيدينا نحو التصالح مع الذات أولًا والاستظلال بالأمان المجتمعي ثانيًا، فالعقل الواعي يحذرنا باستمرار من الانجرار إلى الاستجابة الفورية لانفعالاتنا الشديدة وعواطفنا العمياء، فالعلاقات الاجتماعية والأخوية يدعم استقرارها وهدوءها الاحترام المتبادل والحوار العقلاني في القضايا الخلافية بغية الوصول إلى حلول ممكنة ومقبولة، ومجرد الخلاف حول أمر معين لا يستدعي تحويله إلى قضية شخصية تمس كرامتنا وتهين وجودنا وتتطلب قرارًا فوريًّا مفاده الخصومة والقطيعة والكراهية، فلنتصور أن أي احتكاك يومي على مستوى علاقاتنا أو سوء فهم أفضى إلى خلاف مستحكم ومفارقة، إنه يعني نشر الفوضى والفرقة وضعف المجتمع وحرمانه من أي عمل تطوعي تسنده سواعد أفراده، كما أن الفرد نفسه يتحول إلى كتلة لهب سوداء تضمر الشر والسوء لكل من يختلف معه، وهذا التوتر في علاقاتنا الاجتماعية الواقعة تحت نير الانفعالات والتهور والمشاعر السلبية المتحكمة، أدى إلى شعور بالغربة على مستوى الأرحام والجيران والزملاء في الدراسة أو العمل.
معول الهدم المعاصر هو مبدأ المعاملة بالمثل في السوء والعدوان والظلم، فمن لا يهتم بك لا تهتم به ولا تعيره أية مساحة في حياتك وإن كانت هناك علاقة قرابة أو جيرة معه. فالصلة والتزاور والتواصل يقع في دائرة ضيقة مع من يلتقي معهم فكريًّا، وفي المقابل يدير ظهره للآخر بسبب سوء تفاهم أو موقف احتكاك، والنتيجة المستخلصة من علاقاتنا المعاصرة غياب لغة التسامح والتجاوز عن الخطأ وقبول الاعتذار وتقبل مساعي الإصلاح في العلاقات (ذات البين)، فالضغط على زر التجاهل والقطيعة لا يحتاج في إتمامه إلا لهفوة أو إساءة غير متعمدة.
وتحكمت فينا نعرات الغضب وروح الانتقام ممن وقعنا في دائرة جوره في يوم من الأيام، فنترقب الأيام ودورانها لتوقعه في قبضتنا وتحت رحمتنا لنريه نجوم الظهر ونعيد عليه كرة العدوان، وإن حدثنا أحد المصلحين الحكماء بالعودة إلى الهدوء والتواصل وغض النظر عما بدر من إساءة، فالجواب يدور ويطول الحديث عن خطأه دون أن تبدر منا روح الصفح والعفو !!
السعادة في بعدها الاجتماعي هو التمتع بعلاقات مستقرة وناجحة بأكبر قدر ممكن مع الحرص على تجنب مسببات التوتر وعلخلاف، وإن واجهنا خطأ في حقنا فنلجأ إلى بوابة التسامح وإلقاء الإساءة خلف ظهورنا لنعيد لأنفسنا الهدوء والطمأنينة، فالاستقرار والهدوء النفسي والبعد عن مستفزات ومهيجات المشاعر السلبية من أهم المباديء يهيء الفرد للمضي قدمًا في تحقيق أهدافه والتفكير بمنطقية في الأمور، بل اجترار الآلام والتفكير في الماضي والمواقف الصعبة التي مررنا بها قد يتحول إلى عقدة وتشاؤم من المستقبل.
التحفة الأخلاقية التي يقدمها رسول الرحمة والسلام (ص) تتضمن مواضع ثلاثة يتعرض فيها المرء للحيف والجور ( القطيعة – الحرمان – الظلم )، وتعد محطات ابتلاء لما يمتلكه الإنسان من مكارم وقيم تحجزه عن مقابلة الظلم والعدوان والقطيعة بالمثل، فالنفس المهذبة تضبط إيقاع الانفعال والمشاعر لتعبر تلك المواقف الصعبة بسلام، ومتى ما تجاوزنا مرحلة الاستفزاز فهذا يعني تصالحًا مع النفس ومد يد التسامح مع الآخرين، فالتواصل مع الغير – وإن كان متجاهلًا لوجودنا – يعني رفعة على الكراهيات ودرسًا له ليخرج من شرنقة انفعالاته، وصلة الأرحام والجيران والأصحاب المادية والمعنوية تعبر عن كرم النفس وسخائها وإن كانت تقدم لمن يعاني من الشح والتقتير وحرمان الغير من حقه، كما أن صفة الصفح عن أخطاء الغير ليس بالأمر السهل وقد يوسوس الشيطان للمرء بأنه يعد ضعفا في شخصيتك، ولكن الرسول الأكرم (ص) يؤكد أنه من دلالات شموخ الإنسان وتعاليه على الكراهيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى