أقلام

من رذائل الخلاف إلى فقه الاختلاف والوفاق 

محمد محفوظ 

الإسلام والإنسان

   في خضم الصراعات والنزاعات الكبرى التي تعاني منها البشرية اليوم. وفي ظل الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنتاب العديد من مناطق العالم البشري. من الضروري أن نتساءل: كيف لنا في هذا الجو المحموم، أن نبدع ثقافة حوارية، تساهم في تطورنا الروحي والإنساني والحضاري. كيف لنا أن نطور ثقافة البناء والإصلاح في عالم يمور بالنزاعات والحروب. 

ونحن حينما نتساءل هذه الأسئلة المحورية، لا نجنح إلى الخيال والتمني، ولا نتجاوز المعطيات الواقعية، وإنما نرى أن الخروج من نفق الحروب والنزاعات ومتوالياتهما النفسية والاجتماعية، لا يتم إلا بتوطيد أركان ثقافة الإصلاح والحوار والتوازن. ولا بد من إدراك أن هذه الثقافة، ليست حلاً سحرياً للمشكلات والأزمات، وإنما هي الخطوة الأولى لعلاج المشكلات بشكل صحيح وسليم. 

فالعنف المستشري في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن مقابلته بالعنف، لأن هذا يدخل الجميع في أتون العنف ومتوالياته الخطيرة. ولكن نقابله بالمزيد من الحوار والإصلاح في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم بشكل أو بآخر في تغذية قوافل العنف والقتل والتطرف بالمزيد من الأفكار والتبريرات والمسوغات. 

فالاختناقات المجتمعية، تؤدي لا شك إلى بروز حالات من العنف ومظاهر الانحراف والجريمة. وعلاج هذه المظاهر، لا يتم إلا بعلاج البيئة التي أخصبت هذه المظاهر، وهي بيئة مغلقة، تصادمية، تشاؤمية، ذات نسق تعصبي. 

فالتعصب يؤدي إلى العنف، والتزمت يفضي إلى الانغلاق والانطواء والانحباس. ولا علاج إلى العنف إلا بتفكيك نظام وثقافة التعصب، ولا علاج إلى التزمت إلا بالمزيد من الحوار، ونبذ الأحكام المطلقة، وتأسيس قواعد موضوعية للتعارف الفكري والمعرفي. 

وثمة مفكرون ، حاولوا أن يقدموا إجاباتهم ومشروعاتهم الفكرية والثقافية حول هذه الأزمات والإشكاليات .. 

ومن هؤلاء الصديق الدكتور عبد الجبار الرفاعي ، الذي عمل عبر عطاءاته الفكرية المتعددة وجهوده الإصلاحية المتنوعة ، على تقديم رؤيته لمعالجة هذا الواقع المريض بأمراض الاستبداد والتعصب والعنف .. 

وحين التأمل والتعمق في مؤلفات الأستاذ الرفاعي وأبحاثه المتعددة ، نجد أن الأستاذ الرفاعي مهموم بهمين أساسيين وهما : هم الإسلام وهم الإنسان .. بحيث يرى أن الإسلام بالمعنى المعياري هو عبارة عن طاقة روحية وفكرية هائلة ، ولكن هذه الطاقة لم تمارس فعلها الحضاري في بيئتنا العربية والإسلامية ، من جراء مناهج النظر والتفكير ومتواليات ظاهرة الاستبداد التي سادت المنطقة العربية والإسلامية خلال عقود مديدة ، مما أفضى إلى تشوهات فكرية وثقافية ومجتمعية ، أدت إلى جمود مجتمعاتنا وغيابها عن المبادرة والفعالية الحضارية .. لذلك يعمل الاستاذ الرفاعي في أبحاثه ودراساته على تأهيل فكرة التجديد والتنوير ، ويلح على تجاوز المتواليات النفسية والاجتماعية والفكرية لظاهرة التخلف الحضاري ، حتى يتسنى لمجتمعاتنا العربية والإسلامية الانطلاق في مشروع النهضة والتقدم.. وحتى تستند هذه المجتمعات في مشوارها الحضاري على طاقة الإسلام التحررية والتنويرية في آن . ويوضح الدكتور الرفاعي هذه المسألة بقوله ( أراد القرآن للتوحيد أن يكون صبغة لسائر مرافق حياة الإنسان ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) ( سورة البقرة ، الآية 138 ) ، بمعنى أن تفكير الإنسان وفعالياته وسلوكه اليومي يجب أن يصطبغ ويتلون بالتوحيد ، حتى تصير كل قضية علمية أو عملية ، هي التوحيد قد تلبس بلباسه وتظهر في زيها ، وتنزل في منزلها ، فبالتحليل ترجع كل مسألة وقضية إلى التوحيد ، وبالتركيب يصيران شيئا واحدا ، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما .. لقد كانت العقيدة التي يستوحيها المسلم من القرآن طاقة تنتج الإيمان ، وتوجه السلوك ، لأنها تجعل الإيمان معطى عمليا فاعلا ، مفعما بالحيوية ، عبر دمج النظر بالعمل ، وعدم الفصل بين الإيمان كحالة وجدانية والسلوك الإنساني ، الذي يتجلى من خلاله المحتوى الاجتماعي للتوحيد .. غير أن علم الكلام الذي تمت صياغته لاحقا بالاستناد إلى أدوات المنطق الأرسطي لم يقتصر على تعميق البعد النظري في العقيدة ، بل تجاوزه إلى تفريغ التوحيد من مضمونه العملي ، والتعامل مع المعتقدات كمفاهيم ذهنية مجردة لا صلة لها بالواقع ) (راجع كتاب مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد ,ص23 ).

وفي موضع آخر يقول الدكتور الرفاعي ( ومع أن المسلم أصر على التمسك بالإيمان بالله وبوحدانيته ، ولم يتخل عن إيمانه ، غير إن هذا الإيمان فقد إشعاعه الاجتماعي ، وتجرد من فاعليته ، فلم يتجسد في نزوع للوحدة والمؤاخاة في حياة المجتمع المسلم ، باعتبار أن عقيدة التوحيد توحد المجتمع ، في التصورات ، والغايات ، والشعور ، وأنماط السلوك .. وإنما تعرض المجتمع إلى انقسامات شتى ، وأمسى جماعات وفرقا متعددة ، أهدرت الكثير من قدرات الأمة في سجالات أفضت إلى مواقف عدائية ، وأقحمت الأمة في حروب أهلية في بعض الفترات .. وهكذا يضمحل دور العقيدة ، فلا تحول دون اقتتال الأمة الواحدة ، ولا تكون منبعا للوحدة ، حين تفرغ من محتواها الاجتماعي ) (راجع المصدر السابق ونفس الصفحة) .. 

وفي هذا السياق يدعو الاستاذ الرفاعي إلى إحياء علم الكلام وتجديده ، وتطوير الدرس الحوزوي ، وتطوير الفهم الاجتماعي للإسلام ، والاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة ، وإعطاء أولوية للاجتهاد والإصلاح .. 

والهم الآخر الذي يبرز في كتابات ومؤلفات الاستاذ الرفاعي هو : هم الإنسان في وجوده ومصيره وحقوقه ومآلاته .. من هنا أعطى الاستاذ الرفاعي أولوية فكرية على هذا الصعيد لتفكيك ظاهرة التعصب والكراهية لأسباب دينية أو مذهبية أو قومية ووقف بجرأة ضد كل عمليات القتل والتدمير التي تجري باسم الإسلام وهو بريء منها كامل البراءة ..

فالإسلام لا يشرع لأي أحد انتهاك حقوق الآخرين أو التعدي على حقوقهم المعنوية والمادية .. فالإسلام يدعو إلى صيانة حقوق الإنسان المختلف ، ويحرم التعدي عليها مهما كانت المبررات والمسوغات .. 

 فحياة الإنسان وكرامته مقدسة ، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال انتهاك هذه الحقوق أو امتهان الكرامة المعنوية والمادية .. 

لهذا نجد لدى الدكتور الرفاعي اهتماما بمعالجة ظاهرة التعصب والإرهاب وتفكيك موجباتها الذاتية والموضوعية .. 

فالإنسان يجب أن يحترم ويحمى في وجوده وحقوقه وآراءه وأفكاره .. لهذا فإننا نعتبر مشروع الاستاذ الرفاعي الفكري يتجه إلى تطوير مناهج النظر والتفكير للإسلام للإفادة من طاقة الإسلام الروحية والحضارية .. 

تحرير الوعي العربي

ثمة ضرورة تبلورت  في مجالنا العربي والإسلامي  من جراء أحداث وتداعيات  الحادي عشر من سبتمبر وحرب أفغانستان  . ألا وهي  ضرورة الانطلاق  الجاد في بناء ثقافتنا  من جديد  على ضوء معطيات  الراهن  وثوابت  الثقافة  التي صاغت  مسارات واقعنا  المجيد .

ولكن هذه الانطلاقة  لا تستهدف  تبرير ما جرى ، أو تأكيد  حقيقة  أن هناك  ظروف موضوعية  وسياسية  قادت  الأمور  إلى ما جرى   من أحداث وفظائع  . وإنما  هي انطلاقة   تجتهد في تجسير  الفجوة  بين ما هو  كائن وما ينبغي أن يكون  ، بين  حركة  الواقع  بتعقيداته  وتشابكاته  وحقائق  ثقافتنا  التي لا تقبل  التأويل  والتحوير .

 وتنبع أهمية العمل  على إعادة  بناء ثقافتنا  من النقاط التالية :

 إننا كأمة  ومجتمعات وأوطان  ، نتعرض  لزخم  متدفق  من الإنتاج  الثقافي  والإعلامي  الغريب  الذي  يتجه إلى تشويه  صورتنا  وتحميلنا  كأمة  وعقيدة  مسؤولية  ما جرى  من أحداث .

 فالكثير من عناصر الثقافة  ومواد الإعلام  التي أنتجت  بعد الحادي عشر من سبتمبر  ، تدفع  الأمور  باتجاه  تحميلنا  مسؤولية  تلك الأحداث  . وإن الخيار  المطروح  إمامنا  لقبولنا  في حركة العصر  والنادي  الحضاري  العالمي  ، هو  التخلي  عن الكثير  من القيم  التي فهمها بعضنا بشكل  خاطئ  ومغلوط  أو تم قراءتها  من قبل دوائر  الغرب  الثقافية  والإعلامية  بشكل ملتبس  وغامض . مما أدخل  واقعنا  في دوامة العمل على تبرئة  عقيدتنا  مما جرى  .    وإن ما جرى  هو وليد  تطورات  سياسية إقليمية  ودولية  ، هيأت  الأرضية  السياسية  للانطلاق في مشروعات  عنيفة  ضد الولايات المتحدة الأمريكية  .

وعلى كل حال  فإننا  نود القول في هذا الصدد  : أن ما جرى  أدخلنا  في واقع جديد  وتحديات  حضارية  بعناوين ويافطات  حديثة  ، وإن كل هذا يدفعنا إلى أن نستخرج من معادن ثقافتنا  الغنية  عناصر حيويتها  ونطورها حسب  حاجات  واقعنا  وشعوبنا  ، ثم نعيد صياغتها وننتجها بشتى ألوان الإنتاج مقروءا ومسموعا ومرئيا  .

كل يوم نعيش تحديا حضاريا جديدا, ونواجه أحداثا ووقائع لا نعرف أحكامها ومنهج مواجهتها, حتى جعل الكثيرين منا يعيشون التردد والغبش في الرؤية تجاه كل ما جرى من أحداث وتطورات.

ومن هنا ومن أجل مواجهة الثقافة الغريبة التي تريد وتسعى أن تحملنا كأمة ومستقبل مسؤولية ما جرى, ومن أجل مواجهة المشاكل اليومية العالقة التي زادتنا ترددا وضياعا والتباسا, فإن علينا إعادة بناء ثقافتنا وتحرير وعينا من القوالب الفكرية والثقافة التي تريد مؤسسات الإعلام والثقافة الغربية إدخالنا فيها, وجعل أولوياتها هي أولوياتنا, وأجندتها هي أجندتنا. ومن المشاكل اليومية التي إذا فقدنا البوصلة تزيدنا ضياعا وغبشا وبعدا عن أولوياتنا الصحيحة.

فالأمة حين تفقد شخصيتها, فليس بينها وبين نهايتها إلا خطوة واحدة.. إذ الإنسان يعمل من أجل ذاته وبقواه الذاتية. وحين يفقد التحسس بذاته أو الثقة بها فبماذا ولماذا العمل.. كذلك الأمة تعمل- كأمة- من أجل شخصيتها, وبما لديها من طاقات مادية وروحية, فإذا ضاعت الشخصية فلماذا وبماذا العمل. إن شخصية الأمة هي روحها الجماعية التي يستوحي منها كل فرد من أبنائها العزيمة ولأمل. حين يعشق الفلاح أرضه التي يحرثها ويداعبها حتى تخضر وتنتج لا يحب التراب, كمادة جامدة, بل كرمز للأمة التي عاشوا ولا يزالون عليها.

وحين يتعامل العامل مع آلات مصنعه, وينسجم معها كأنه في جوقة موسيقية. فليس يتعامل مع الحديد. إنما مع البشر الذين سوف ينتفعون بها.

إن حبلا يشد هؤلاء وأمثالهم إلى بعضهم وروحا واحدة. تجمع قلوبهم وتضيئها بقنديل الأمل. ولكن إذا ضاعت شخصية الأمة ولم يعد يشعر أبناؤها بالروح الواحدة التي تجمعها فإن كل واحد سيتخذ طريقا مختلفا. وسيشعر الجميع بالضعف والعجز والهزيمة.

ومن الطبيعي القول : أنه من دون الثقافة الواحدة ذات القيم الإنسانية والحضارية السامية والثابتة التي يؤمن بها الجميع إيمانا راسخا يبعثهم على العطاء من أجلها والتضحية لها بكل شيء يسقط الجدار المعنوي لبناء الأمة.

ومن دون الهدف, ذو التجربة التاريخية, الذي يكون نقطة ارتكاز لنشاطات وحركة الأمة, ينهار الجدار المادي لبناء الأمة,

وإن بوابة كل ذلك أو بالأحرى إن شرط القبض على كل ذلك }الثقافة الواحدة والهدف الواضح{  , هو تحرير وعينا العربي المعاصر من كل الأوهام والأغلال التي تكبل تفكيرنا وتحرف أولوياتنا وتجعلنا نعيش الغبش في كل شيء.

إننا كأمة نتعرض اليوم لتهديد حقيقي بضياع شخصيتنا ولا سبيل أمامنا إلى تحرير وعينا من كل الرواسب التي تحول دون انطلاقتنا الحضارية والإنسانية.

إن ما جرى من أحداث ومآسي ليس نهاية التاريخ, وإنما هو لحظة تاريخية تحملنا مسؤولية العمل على بناء ثقافتنا حتى يتسنى لنا جميعا المشاركة الفعالة في حضارة العصر. وحتى نتمكن من خلال وعينا وتقدمنا الحضاري, أن نجابه كل التصورات التي تحاول أن تلصق صفة التخلف والتأخر بالإسلام.

إن مسؤوليتنا تتجسد في الهروب إلى الأمام, عبر تحرير وعينا وبناء واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي على أسس أكثر إنسانية وحضارية وينبغي أن ندرك جميعا أن الزيادة في الدين حرام, لأنها نوع من الغلو الممنوع. وإن هذا الأخير كان هو المسؤول المباشر عن تمرد طائفة كبيرة من الناس على الدين.ولا يخفى علينا جميعا أنه في العالم المسيحي كان الغلو في الدين هو السبب المباشر لانتهاء سيطرة الكنيسة وتحول الناس إلى اللائكية والإلحاد.

وحين تراجعت الكنيسة تحت ضغط الظروف عن إضافاتها اللامعقولة إلى الدين عاد العالم الغربي إلى الكنيسة. من هنا غضب الباري عز وجل على طائفة من الناس لأنهم حرموا ما أحل الله لهم وقال } قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون* قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون{ . (الأعراف الآية 32-33 )..

من هنا فإننا نقول : إن فتح أبواب التطور أمام الأمة, يتطلب تحرير وعينا وبناء ثقافتنا على ضوء معطيات الإنسان والحضارة. وهذا يقودنا إلى التأكيد على النقاط التالية:

  1. أصالة القيم: غني عن القول, أنه كلما ابتعدنا عن القيم والمبادئ والمثل الإنسانية والحضارية, اضطرب واقعنا وبدأنا نعيش في دائرة الفوضى والعدوان واللاأبالية. لهذا فإننا لا يمكن أن نبني ثقافتنا ونحرر وعينا من الأوهام والأغلال الداخلية والخارجية. بدون الاستناد إلى أصالة قيمنا ومبادئنا. وما أحوجنا اليوم كأفراد وأمة إلى تلك القيم التي تعلي من شأن الإنسان وكرامته وتحفزنا على التعاون والتسامح والتآخي على قاعدة المشترك الديني والإنساني فالناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. وإن جهدنا اليومي المطلوب, ينبغي أن يتجه صوب تعميق هذه القيم ومتطلباتها في فضائنا الاجتماعي. فكلما نقترب من الالتزام بمقتضيات هذه القيم, تتوطد أسس الأمن والاستقرار في محيطنا ومجالنا الاجتماعي. ولا تحرير لوعينا إلا برافعة هذه القيم, التي تطرد من عقولنا وواقعنا كل حالات الأثرة والأنانية والتصنيف والتهميش والانخراط الأبله في مشروعات التفتيت والحروب المجانية.

والفقهاء والعلماء والمثقفين في مجالنا العربي والإسلامي, يتحملون مسؤولية كبرى في هذا الإطار, إذ أن عطاءهم الفكري وجهدهم الإصلاحي من الأهمية بمكان أن يتوجه صوب تعميق حقائق حقوق الإنسان وخيار الحرية والديمقراطية في الأمة.

  1. ضرورة الاستناد على حقائق القوة والتقدم, وترك ونبذ الشعارات التي نتعامل معها وكأنها البديل الجوهري عن العمل والبناء. فالتقدم ليس وليد الشعار المجرد, بل هو نتيجة العمل المستمر الذي يتجه نحو صناعة الحقائق الثقافية والاقتصادية والسياسية, التي تساهم في حل العديد من المشكلات، وتستوعب جملة من الطاقات والكفاءات, وتؤكد لنا جميعا أن لا خيار أمامنا إلا خيار البناء والعمل من أجل ترجمة طموحاتنا وتطلعاتنا إلى حقائق ووقائع على الأرض.
  2. التفاعل مع التجارب الإنسانية الحديثة, ورفض حالات الانكفاء والانعزال والتهميش. فالعلم الحديث, خلاصة تجارب, وعينا أن ننفتح عليها, ولكن قبل ذلك علينا أن نميز بين قشور التجارب ولبابها, بين المغزى الحقيقي للتجربة, وبين الإطار الذي وضع فيه هذا المغزى.

 والأمة التي تنعزل عن تجارب غيرها, تتأخر, ولا تمتلك القدرة على استيعاب تطورات ومكاسب الآخرين.

وجماع القول: إن التطورات السياسية التي تجري اليوم في المنطقة, تتطلب منا العمل على تحرير وعينا من أوهام الاستنساخ الحرفي وأسباب العطالة والاستقالة عن الفعل التاريخي, ونعمل جميعا على تأسيس وعي معاصر, يأخذ في اعتباره أن القبض على المستقبل, لا يأتي إلا ببناء القوة الحضارية, وصنع حقائق التقدم والتطور في فضائنا العربي والإسلامي. و البداية السليمة لأي مشروع اقتصادي أو تجاري أو حضاري, هو التعرف التام على الراهن واللحظة التاريخية و جوانبها المختلفة, لأنه باختلاف الواقع, يختلف الأسلوب, و تتغير الوسيلة, فواقع الثمانينات الاقتصادي مثلا, يتطلب مشاريع وأفكار اقتصادية, تختلف بشكل أو آخر عن مشاريع ومتطلبات عقد التسعينات, كما أن العقد الأول من الألفية الجديدة تتطلب مشروعات وأفكار اقتصادية متميزة. والمشروع الاقتصادي أو التجاري أو الحضاري, الذي يجهل الواقع ومتطلباته, لن يتمكن من تحديد سلم الأولويات في مشروعه. وكثيرة هي الأعمال والأنشطة في المشهد العربي, التي ضيعت سلم الأولويات لا لسبب ذاتي, وإنما لجهلها التام أو النسبي للواقع الذي تعيشه و متطلباته المختلفة.                                                                             ولكن ثمة خلل عميق قد يصيب المجتمع في هذه المسألة, إذ كثير من المجتمعات, تختلط لديها الأماني و التطلعات با لإمكانات والقدرات المتوفرة, لأن العمل والسعي الحثيث, هو القنطرة الوحيدة لنقل التطلع من عالم التجريد إلى عالم التشخيص, من المثال إلى الممكن. ويجانب الصواب من يرى أن أحقية تطلعه, وأهمية أمنيته وعدالة قضيته, كل هذه الأمور كافية لاجتياز طريق تحقيقها وإنجازها في الواقع الخارجي, لأن هذه القضية قضية موضوعية, خاضعة إلى النواميس والسنن, ومقدار القدرة الفعلية المتوفرة في سبيل الإنجاز.

من هنا تنتج ضرورة الموازنة بين التطلع والإمكانيات, بين الواجب و الواقع, بين المثال والممكن, بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن, لأن هذه الموازنة, هي التي توظف الإمكانات القليلة في سبيل تحقيق التطلع الأهم وذات الجدوى.

ولعلنا  لا نبالغ حينما نقول, أن دراسة تجربة العرب المعاصرة سواء على الصعيد السياسي, أو على صعيد مشاريع التنمية و التطوير الاقتصادي, تكشف لنا أن أحد الأخطاء التاريخية التي منيت بها تجربة العرب المعاصرة على هذه الصعد, هو حالة الخلل الموجودة بين الممكن و الواجب, بين التطلع والإمكانيات, إذ اختلطت هذه الأمور في التجربة, فجعلت البعض يقوم بأعمال وأنشطة و مشاريع لا تنسجم وظروفه الواقعية.

ونحن هنا بطبيعة الحال, لا ندعو إلى أن يتخلى العرب عن تطلعاتهم و أمانيهم لأنها ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني. ولكننا ندعو إلى أن المجتمعات العربية على المستوى العملي والفعلي, ينبغي أن يعملوا في كل الاتجاهات على قاعدة الإمكانات و القدرات, لأن الإنسان مهما أوتي من قوة, فإنه لن يستطيع أن يحقق تطلعاته دفعة واحدة, وإنما عليه أن يعمل و يسعى, لتحقيق خطوات و إنجازات ومكاسب, تقربه من تطلعه البعيد. وعلى هدى هذه الحقيقة التي ترقى إلى مستوى القانون, تتأكد مسألة الموازنة بين المثال والممكن, وإننا نرى أن أحد الشروط الأساسية لنجاح المجتمع العربي في تنميته وتطوره, هو الموازنة الواعية بين الممكن والواجب. لهذا فإن القرآن الحكيم نزل منجما [بالتدريج] والدين الإسلامي في كل توجيهاته الفكرية, و تعليماته الأخلاقية, وتشريعاته القانونية, يأخذ بعين الاعتبار واقع الحياة والإنسان. وهذا لا يعني التخلي عن المثال أو التطلع, وإنما يعني العمل على رفع سيئات الواقع و إحلال حسنات المثال و القيم بشكل تدريجي لا يفاجىء الناس, ولا يعطل مسيرة المجتمع .         

فلا يكفي حماس المجتمع حتى يتحقق تطلعه و طموحه, وإنما لابد من توفير جملة من العوامل الذاتية والموضوعية, لإنجاز التطلع والطموح. وإن الخطر الحقيقي الذي يواجه الواقع العربي اليوم, ليس في الهزيمة المادية الخارجية, بل في الهزيمة النفسية. التي تسقط كل خطوط الدفاع الداخلية, وتمنع من وجود القدرة الطبيعية لإدارة الذات فضلا عن تطويرها وتذليل العقبات التي تمنع ذلك. 

الحرية ومعنى الاختلاف

لعلنا لا نضيف جديدا حين القول : أن الحـوار والتواصل الفكري الدائم ، من المداخل الأساسية لتجذير مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي .  إذ من خلال هذا الحوار الجاد والمتواصل تتأسس شروط التحول الفكري والاجتماعي . وبالحوار يتم تجديد وتطوير مفهوم الحرية على المستوى النظري والعملي ، ويتم اكتشاف آليات جديدة ومبدعة للنهوض بالحرية في الواقع المجتمعي .

ولا يمكن مقاربة مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي المعاصر ، بمعزل عن مفهوم الاختلاف ، وحق الإنسان الطبيعي في هذا الاختلاف .

وجذر حق الاختلاف في المنظور الإسلامي ، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل حقائق التشريع ومقاصده البعيدة ، وإنما هم يجتهدوا ويستفرغوا جهدهم في سبيل الإدراك والفهم ، وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية ، يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية ، ويبقى هذا الحق مكفولا للجميع .

فالاختلاف مظهر طبيعـي في الاجتماع الإنساني وهو الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد . أعني أن التعدد لا بد من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه .   فالاختلاف من هذه الزاوية ، قبل أن يكون حقا ، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من مظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري وكما تتجلى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلى بين الجماعات أيضا . لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو مــن حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة .

ووفق هذا المنظور لا يشكل الاختلاف نقصا أو عيبا بشريا يحول دون إنجاز المفاهيم والتطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ . وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان ، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار . وإجماع الأمة تاريخيا حول قضايا فكرية أو سياسية وما شابه ذلك ، ليس وليد الرأي الواحد ، وإنما تحقق الإجماع عن طريق الاختلاف الفكري والثقافي ، الذي أثرى الواقع ، وجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها وتتراكم حتى وصلت الأمة إلى مستوى الإجماع .  

وسيادة الرأي الواحد ،يؤدي إلى التخشب واليباس ، وإلى توقف العقل عن التفكير في القضايا الجادة ، وضمور حـالات التجديد ، والاستسلام لقوالب ونماذج ثقافية وفكرية جاهزة .

والبيئة الاجتماعية التي تقمع الآراء ، وتنظر إلى الاختلافات والاجتهادات الثقافية والفكرية نظرة شائنة ، هي البيئة التي تزدهر فيها حالات الجمود واللامبالاة ، وتعشعش فيها كل الهوامش والطفيليات .

فالعقل قرين الحرية ، فلا عقل فعال بدون حرية ، و لا حرية مستديمة بدون عقل يمارس التفكير والسؤال والمساءلة ، ويتحرك دائما نحو تجديد أفق المعارف والتصورات ، وحرية تؤسس للشروط اللازمة لممارسة العقل سلطته ووظيفته الجوهرية . 

ومن خلال الصلة الوثيقة بين العقل والحرية ، تتجدد أدوات المعرفة ، وتتطور أنماط الإنتاج العقلي والمعرفي . ووفق هذا السياق نتمكن من القول ، أن الخرافة والتقليد الأعمى للآخرين كلها مضادات للحرية .. بمعنى أن سيادة الخرافة  يعني تراجع مستوى الحرية ، كما أن شيوع حالات التقليد الأعمى يعني ضمور مجالات الحرية . فلا يمكن أن تلتقي الحرية مع الخرافة ، كما أنه لا يمكن أن تنسجم حالات التقليد الأعمى مع متطلبات الحرية .

والإسلام الذي كفل حق الاختلاف ، واعتبره من النواميس الطبيعية ، وجعل التسامح والعفو  سبيل التعاطي والتعامل بين المختلفين . فحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة ، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير ، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو . وبهذا لا يخرج الاختلاف عن إطاره المشروع ، وفي نفس الوقت يمارس دوره الحضاري في حفز الهمم والبحث عن الحقيقة ، والتعاطي مع جميع الآراء والتعـبيرات بعقلية حضارية تنشد استيعاب الآراء ، وتستفيد منها جميعا في بناء واقعها ومسارها .

فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل ، وإنما هو ناموس كوني وجبلّة إنسانية .  الخلاف والتشرذم والتفرقة ، هي التي تساوي الإثم والخلل . وعلى هذا ينبغي أن نجدد رؤيتنا للاختلاف ، ونتعامل معه وفق عقلية جديدة ، لا ترى فيه إثما ومعصية ، وإنما قدرة إنسانية مفتوحة ومتواصلة لإثراء الواقع والحقيقة .

فالاختلاف هو الوجه الآخر لضرورة الاجتهاد وإعمال العقل والفكر ، كما أن الخلاف والتشرذم هو الوجه الآخر للخضوع للأهواء والغرائز والنـزعات الشيطانية ، التي تتمرد على القيم والأخلاق ، وتؤسس لصراعات وفتن دائمة ، وتدخل الجميع في أتون النـزاعات التي لا طائل من ورائها .

فالحرية لا تعني الانفلات من الضوابط الأخلاقية والإنسانية ، وإنما تعني امتلاك القدرة على التعرف والاختيار وفق لقواعد عقلية أو ضوابط شرعية .

   فهي تتجه إلى الكمال وليس إلى التخريب ، وإلى الانسجام ونواميس الكون والمجتمع وليس للخروج عنهما .

والاختلافات   المعرفية والفقهية والاجتماعية والسياسية ، ينبغي أن لا تدفعنا إلى القطيعة واصطناع الحواجز التي تحول دون التواصل والتعاون والحوار . وذلك لأن الوحدة الداخلية للعرب والمسلمين ، بحاجة دائما إلى منهجية حضارية في التعامل مع الاختلافات التنوعات . حتى يؤتي هذا التنوع ثماره على مستوى التعاون والتعاضد والوحدة . 

والمنهجية الأخلاقية والحضارية الناظمة والضابطة للاختلافات الداخلية ، قوامها الحوار والتسامح وتنمية المشتركات وحسن الظن والاعذار والاحترام المتبادل ومساواة الآخر بالذات . هذه المنهجية هي التي تطور مساحات التعاون وحقائق الوحدة في الواقع الخارجي. 

فالوحدة لا تفرض فرضا ، ولا تنجز برغبة مجردة ، وإنما باكتشاف مساحات التلاقي والعمل على تطويرها ، ودمج وتوحيد أنظمة المصالح الاقتصادية والسياسية . 

من البديهي القول أن التجارب الوحدوية التي كانت تعتمد على القسر والقوة والقهر في بنائها ، تحولت إلى تجارب مولدة للتمايز المقيت والإنفجارات السياسية والاجتماعية ، وكأن حقبة الوحدة القسرية ، هي حقبة تربية الفوارق وتنمية التناقضات وتعميق مناطق التوتر . فالمشروعات التمامية والكليانية ، التي تعتمد على القوة والقهر لفرض أجندتها وتطلعاتها ، وتنبذ كل أشكال الخصوصية ، لا تصل إلى أهدافها ، وإنما تزيد الوضع سوءا وتدمر مستويات التعايش المتوفرة . والحرية هي التي تسمح لجميع الأطياف والقوى في المجتمع ، أن تمارس دورها في إغناء الوحدة الوطنية وتكريس قيم العدالة والتسامح في مسيرتها التصاعدية . ولقد علمتنا التجارب أن تأجيل مشروع الحرية لإنجاز الوحدة لا يؤدي إلى نتيجة إيجابية . بل الاستبداد  هو الذي يئد مشروع الوحدة ، وهو الذي ينهي حلم الوحدة ، ويوصل الجميع إلى نتائج كارثية . فلا وحدة بلا حرية ، ومشروع الوحدة الحقيقي يبدأ بإشاعة الحرية والسماح للجميع بممارسة حقوقهم وقناعاتهم . فالكيانات التسلطية لا تصنع وحدة وإنما تصنع شمولية سياسية تلغي كل إمكانات الشعب وتحارب قواه الحية ، وتحول دون انطلاقته وإنجازاته لتطلعاته وأحلامه . فالقمع لا يصنع وحدة ، والقسر لا يؤدي إلى الإتحاد ، وإنما يؤديان إلى تأجيج نار الصراعات والتوترات ، ويخطئ من يعتقد أن طريق الوحدة هو القوة والفرض والقهر . وحدها الحرية بما تعني من مضامين ثقافية وسياسية وحضارية ، هي طريق الوحدة وبوابتها الواسعة . وقوة العرب والمسلمين في حريتهم ، حيث أنها القدرة المواتية لإطلاق دينامية التحولات النوعية المتجهة نحو وحدة حقيقية وصلبة في المجال العربي والإسلامي . لأنها تفكك أنظمة الاستبداد ومشروعات العنف والقهر ، وتؤسس لحركة اجتماعية متواصلة ، يشترك فيها الجميع ( كل من موقعه وخندقه ) ، وذلك من أجل البناء والوحدة على قاعدة الحرية والديمقراطية . فدولة القمع والسلطة المطلقة ، لا تصنع وحدة اجتماعية ووطنية مستديمة ، وإنما هي تغرس وترعى بعنفها واستبدادها النزعات العائلية والعشائرية والطائفية والعنصرية والجهوية . وبهذا نستطيع القول أن دولة القمع والاستبداد تصنع التفتت والتشظي حتى لو كان السطح الاجتماعي موحدا ومستقرا . فالوحدة هنا كاذبة والاستقرار وهم . لأنها وحدة كل عنوان فرعي ضد الآخر . واستقرار كل طرف على مواقعه التقليدية الضيقة . وبهذا تتصاعد التوترات والتناقضات بكل أشكالها وأطيافها في دولة القمع والاستبداد . فالعنف لا يصنع وحدة ، وإنما يخلق انفجارا اجتماعيا بأشكال مختلفة ومستويات متعددة . وتسويد قيم الاستعلاء والتمييز والتهميش والجهوية المتطرفة ، كلها تزيد من مآزق الدولة والمجتمع ، وتدخل الجميع في دوامة العنف والعنف المضاد . والأمن لا يصان بالقمع ، والاستقرار لا يتأتى بتنمية المخاوف وتأجيج العواطف السلبية ، والوحدة الوطنية لا تبنى بالاستعلاء والتهميش والتمييز .كل هذه الأمور ( الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية ) سبيلها قيم الحرية والمشاركة والتسامح واحترام حقوق الإنسان . إننا نتطلع إلى الوحدة ، ولكن ليست تلك الوحدة التي تسلبنا حريتنا ، وإنما نتطلع إلى تلك الوحدة التي تصون الحرية ، وإلى تلك الحرية التي تثري الوحدة بمضامين حضارية جديدة . فالطريق السليم لإنجاز مفهوم الوحدة الاجتماعية والوطنية ، هو التعامل السليم مع الاختلافات والتنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة الموجودة في المجتمع ، تعاملا لا يكبت ويقمع هذه التنوعات وإنما ينظمها ويحترمها ، ولا يتعالى على حقائقها ، وإنما يتعاطى معها وفق سياق حضاري قوامه التسامح مع حق التعدد ، وتجنب أسباب وموجبات التوترات والاحتقانات ويفتح للجميع سبل العمل المشروع في مستوياته المتعددة ..     

وإن تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع ، لا يتأتىالا بممارسة الديمقراطية والحرية . وإن تجاوز عيوب المجتمع ومعوقات التحول الديمقراطي ، لا يتأتى أيضا إلا بممارسة الديمقراطية . وحدها ممارسة الحرية والديمقراطية هي التي تتجاوز عيوب المجتمع ، وتعالج معوقات الإنطلاقه الديمقراطية . ” فالديمقراطية ليست ثمرة تقطف أو نظاما جاهزا يقام في لحظة يحددها حاسب إليكتروني . إنها معركة اجتماعية وسياسية طويلة ومستمرة لا تنتهي ولن تنتهي ، تواكب تطور المجتمعات وتتقدم مفاهيمها ونظمها مع تقدمها . فالبر غم من أن الديمقراطية أصبحت راسخة الجذور في الدول الصناعية الغربية التي تعيش تجربتها منذ عدة قرون ، لم ينته النقاش فيها والحوار حولها ، ولا تزال الأحزاب تتنافس على تعميق مدلولاتها وقيمها ونظمها . ولكل مجتمع ـ حسب مستوى نضجه ونضج قواه السياسية والاجتماعية وتوازنا ته ـ مطالبه الديمقراطية ومستوى المشاركة الشعبية الضرورية لتطوير نفسه ، ودرجة التمتع بالحريات الفكرية والتنظيمية الجماعية والفردية التي لم يعد هناك اليوم إمكانية بناء مجتمعات سياسية ومدنية بالمعنى الحقيقي للكلمة من دونها . إن مفهوم الديمقراطية قد ارتبط بمفهوم المواطن ، وبناء المواطنية ، ولا جماعة وطنية من دون مواطنيه ، ولا مواطنيه من دون حرية ومسؤولية جماعية . وفي غياب هذه العوامل المترابطة معا تكمن أزمة التشكيلية الوطنية العربية جميعها ، وفي كل مكان ” 

وإن التحول نحو الحرية والديمقراطية في أي مجتمع ، بحاجة إلى وعي عميق بضرورتها وأهمية وجودها في البناء الوطني السياسي والثقافة والحضاري . وأن هذا الوعي بحاجة إلى أن يترجم إلى وقائع قائمة وحقائق مشهودة . وأن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق والكرامة ، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع . 

ودورنا في ها الإطار يتجسد في تكثيف الفعل الثقافي والاجتماعي لتحرير دينامية التحول الديمقراطي من كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية ، حتى تأخذ الديمقراطية موقعها الأساس في تنظيم الخلافات والصراعات وضبطها ، وحتى تتجه كل الجهود والطاقات نحو بناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطني ، وتعميق موجبات العدل والمساواة والحرية ..    

الاختلاف وبث الكراهية

مع إيمان الجميع من أهل المذاهب الإسلامية ، أن وحدة الأمة ، من الثوابت والمقدسات ، وأن هناك أدلة نقلية من الكتاب والسنة عديدة ومتظافرة ، تؤكد على هذه الحقيقة ، وتحث عليها .. إلا أنه لماذا مع أي مشكلة صغيرة أم كبيرة ، تجري هنا أو هناك ، تصبح وحدة المسلمين في مهب الريح ، ويتسابق الجميع إلى انتهاكها .. 

والكل يصر أن الوحدة المطلوبة ، أن تصبح جميع الأطراف الأخرى مثله في الأفكار والقناعات .. وإذا لم يتحقق هذا ، فلا وحدة على حد تعبيرهم بألفاظ ومقولات متفاوتة ، بين الحق والباطل .. 

والذي يزيد الألم ألما ، هو الادعاء المتبادل كمبرر للتضحية بالوحدة ، وإدخال الأمة بأسرها في أتون التوترات والصراعات المذهبية والطائفية ، أنه هو وحده الذي يمثل حبل الله المتين .. وأن الوحدة التي يحث عليها القرآن الكريم ، تقتضي من الطرف الآخر أن يخرج من غيه وانحرافه ، ويلتحق بركبه ومسيرته .. 

لهذا أي لعدم جدية الجميع في التعامل مع مطلب وحدة المسلمين والحفاظ على مكاسبهم ومصالحهم العليا ، فإن هذه القيمة يتم التضحية بها لأتفه الأسباب  والمشاكل .. 

وأسوق هذا الكلام ، ليس لتبرير الإساءات القائمة في الاجتماع الإسلامي المعاصر ، فهي إساءات مرفوضة سواء صدرت من مسلم سني أو مسلم شيعي .. فإننا نرفض الإساءات إلى رموز ومقدسات المسلمين ، ونعتبر أن هذه الإساءات من التصرفات المشبوهة التي تزيد من ضعف المسلمين ومحنهم على أكثر من صعيد .. 

ولكن ما أود أن أقوله : لماذا ولأتفه الأسباب تتحول العلاقات الإسلامية الداخلية ، إلى علاقات سيئة ومتوترة .. مع إيمان الجميع بضرورة حسن العلاقة ، وبأهمية الحفاظ على عزة المسلمين ووحدة الأمة .. 

ففي الوقت الذي نرفض السب والشتيمة للرموز والمقدسات جميعا ، في ذات الوقت نرفض أيضا إدخال الواقع الإسلامي بأسره في حروب طائفية ومذهبية .. 

فالإساءات لا تعالج بتوتير الأجواء واتهام الجميع وإطلاق أحكام جائرة بحق من أدان الإساءة ، ورفع الغطاء الديني عنها .. إذ يقول تبارك وتعالى [ أمن هو قانت ءاناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ] ( الزمر 9 ) ..

فوحدة المسلمين من الضرورات الشرعية والسياسية والحضارية ، التي ينبغي الحفاظ عليها وعدم التضحية بها لأي سبب كان .. 

فنحن بحاجة إلى التفكير الجدي ، لإيجاد آليات متكاملة ، لمعالجة المشاكل والأزمات التي تحدث بين المسلمين لأي سبب من الأسباب ، دون التضحية بالوحدة أو إدخال الجميع في حروب المهاترات والتسقيط والاتهام .. فالخطأ ينبغي أن نحاصره ، كخطوة أولى لمعالجته .. والخطايا ينبغي رفع الغطاء الديني عنها بصرف النظر عن مرتكبها والقائم بها .. 

هكذا يجب أن نعالج مشكلات المسلمين الداخلية .. فمن الضروري في هذا السياق فك الارتباط بين واقع الاختلافات والتباينات المذهبية وبين نزعات العداء والكراهية .. 

فالاختلافات ينبغي أن لا تقودنا للانخراط في حملة إعلامية ومنبرية لبث الكراهية وتعميق نزعة العداء بين المسلمين .. فالعلاقات العدائية بين المسلمين ، تدمر أوطانهم ، وتفتت مجتمعاتهم ، وتدخلهم في حروب طائفية مقيتة ، تضعف الجميع ولا رابح منها إلا أعداء الأمة والإسلام .. 

فما نسمعه في العديد من المنابر ، هو تعميم لمفهوم الكراهية المذهبية ، وتغطيته دينيا وثقافيا .. وهذا  بطبيعة الحال ينذر بمخاطر عديدة ، تمس الواقع الإسلامي المعاصر بأسره .. فالاختلافات المذهبية مهما علا شأنها ، ينبغي أن لا تقودنا إلى الانطلاق في حملة بث ا لكراهية المذهبية .. لأن هذه الحملة ومتوالياتها ،وردود الفعل المتوقعة تجاهها ، ستحول العالم الإسلامي كله إلى كرة من اللهب متنقلة ، ومدمرة للكثير من حقائق الانسجام والألفة بين المسلمين ..    

فالإسلام بكل قيمه ومبادئه ، هو دين الرحمة والقول الحسن ، ومن يدعو إلى القتل والنبذ والاحتقار باسم الإسلام ، هو يشوه هذا الدين العظيم ، ويناقض ثوابته ، ويؤسس لحروب داخلية بين المسلمين تدمر مكاسبهم وتقضي على مصالحهم .. 

فالاختلاف المذهبي لا يشرع لأحد ، الخروج عن ثوابت الإسلام ، أو بث الحقد والضغائن في صفوف المسلمين .. 

فالمذاهب الإسلامية هي حقيقة عقدية وتاريخية وثقافية ، لا يمكن نكرانها أو التعامل معها بنزعة استئصالية ..   

فهي عميقة وضاربة جذورها في التاريخ الإسلامي ، ولا يمكن أن ننهي تبايناتها وخلافاتها بين عشية وضحاها .. 

لذلك فإننا نعتقد أن المطلوب هو الأمور التالية : 

  1. أن لا نعيد إنتاج مشاكل المسلمين التاريخية ، لأنها مشاكل أصبحت جزءا من التاريخ .. ووجود مواقف متباينة تجاهها ، لا يشرع لأحد شن الحروب المتبادلة ، بدعوى الخلاف حول هذا الحدث التاريخي أو ذلك .. فالباري عز وجل يقول [ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون ] ( البقرة 134 ) ..  
  2. من الصعوبة بمكان لاعتبارات عديدة ، أن تتطابق وجهات نظر أهل المذاهب الإسلامية في كل شيء ، لأن هذا خلاف طبائع الأمور ، ودونه خرط القتاد كما يقولون .. ولكن عدم تطابق الآراء في كل القضايا والأمور ، لا يبرر لأحد تجاوز حدود الأخلاق في النظر إلى موضوعات الخلاف والتباين .. فالمطلوب دائما أن نحترم قناعات بعضنا البعض .. والاحترام هنا لا يساوي قبول كل طرف ما لدى الطرف الآخر .. وإنما تقدير قناعة الآخر والتعامل معها ومع أصحابها وفق مقتضيات الاحترام وعدم الإهانة .. 
  3.  إن بناء علاقات إيجابية بين أهل المذاهب الإسلامية ، قائمة على الاحترام المتبادل والمعرفة العميقة ، يتطلب من جميع الأطراف العمل من اجل توفير كل العوامل والأسباب المؤدية إلى العلاقة الإيجابية .. 

فكلنا يتحمل مسؤولية العمل من أجل تعزيز خيار التفاهم والتلاقي بين المسلمين مهما كانت الصعوبات والمثبطات .. 

فطريق الدفاع عن مقدساتك ، هو بيانها وتوضيحها بالأدلة والبراهين .. 

ووجود أطراف غير مقتنعة بما تقول ، لا يعطيك حق التعدي عليهم وهتك حرماتهم .. وفي المقابل فإن رفضك لقناعات الطرف الأول ، لا يعطيك حق إهانة وتوهين مقدساته .. 

فالمطلوب :نزع الغل والحقد من نفوسنا ، والعمل على بناء ثقافة اجتماعية ، تحترم المختلف وتحاوره بعيدا عن الطعن في المسلمات والثوابت .. 

 

المقدس والحرية

بين الفينة والأخرى تثار في فضائنا العربي والإسلامي ، مجموعة من القضايا والممارسات ، التي تستفز الناس وتقسمهم إلى قسمين : الأول مع هذه القضايا باسم الحرية ، والقسم الآخر ضد هذه القضية باسم الدفاع والذود عن المقدس والثوابت .. ولعل آخر هذه القضايا المثارة ، والتي أخذت أبعادا اجتماعية وسياسية وحقوقية عديدة في تونس هو بث أحد التلفزيونات الخاصة فيلم كرتوني باسم ( برسي بوليس )يتعرض إلى الذات الإلهية .. مما أجج النفوس ، وأنزل الآلاف إلى الشوارع منديين بالتلفزيون وأصحابه الذين سمحوا ببث فيلم مهين إلى المقدسات والثوابت الإسلامية .. وفي مقابل هذا الموقف عبر العديد من الشخصيات والمؤسسات الفكرية والمدنية والحقوقية عن رفضها لعملية استخدام الشارع ، وأبدت وقوفها وتضامنها مع التلفزيون الذي مارس حريته .. وإن رفض هؤلاء إلى ممارسات الشارع ، هي تعبيرهم المباشر عن حقهم في الحرية وممارساتها .. 

ويبدو من هذه القضية وغيرها من القضايا المشابهة ، أن هذه المسألة تعود إلى طبيعة العلاقة المتصورة بين المقدس والحرية .. فهناك أطرافا تتصور أن الحرية بكل آفاقها وأشكال ممارساتها الخاصة والعامة ، هي القيمة الكبرى التي ينبغي الدفاع عنها ، ورفض أي شكل من أشكال تقييدها أو تحييدها .. 

لهذا فإن هذه الأطراف تقف موقفا إيجابيا ومؤيدا لكل فرد أو جهة مارست حريتها وعبرت عن قناعتها بحرية تامة .. وفي مقابل هذه الأطراف ، هناك أطرافا أخرى ترى أن الحرية هي قيمة من مجموعة قيم ومثل عليا ، ولا يمكن على الصعيد العملي من التعامل مع هذه القيمة بمعزل عن المنظومة القيمية الكاملة ، التي تحدد بعض الحدود والضوابط على مستوى الممارسة .. 

وإن هذه الحدود والضوابط ليست تقييدا لقيمة الحرية ، وإنما في هذا الموضوع أو القضية الأولوية لقيمة أخرى مختلفة عن قيمة الحرية .. وهكذا تتباين وجهات النظر ، وستبقى العلاقة بين المقدس والحرية علاقة شائكة وقلقة ، وتتطلب المزيد من أعمال العقل والفكر لبناء تصور متكامل لطبيعة العلاقة بين المقدس والحرية .. 

وفي سياق بلورة الرأي أو خلق مقاربة نظرية جديدة للعلاقة بينهما نود إبراز النقاط التالية: 

1-مع الحرية وضد الإساءة : 

الحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما ، وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات والعقل ، تحول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة .. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة ، لن يستطيع من اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها .. وكما يقول الدكتور ( علي حرب ) أن الحرية ليست هواما ليبراليا كما يتخيلها السذج من الحداثيين الحالمين بفراديس أرضية أو بديمقراطيات مثالية .. هذه أكبر عملية خداع مارسها وما يزال المثقفون العرب والغربيون فيما يخص تحديث المجتمعات العربي وتطورها .. ذلك إن الذي يمارس حريته هو الذي يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته ، بما ينتجه من الحقائق أو يخلقه من الوقائع في حقل عمله أو في بيئته وعالمه ..

ومن لا سلطة له لا حرية له .. ولذا فالحرية عمل نقدي متواصل على الذات ، يتغير به المرء عما هو عليه ، بالكد والجهد ، أو المراس والخبرة ، أو السبق والتجاوز أو الصرف والتحول ، مما يجعل إرادة الحرية مشروعا هو دوما قيد التحقق بقدر ما يشكل صيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء .. 

من هنا ووفق هذا المنظور مع الحرية كقيمة مركزية في منظومتنا القيمية والفكرية ، وضد الإساءة التي قد تمارس باسم الحرية وهي ليست من الحرية في شيء من الحرية أن تمارس قناعتك في أي موضوع ، ولكن ليس من الحرية أن تسيء إلى الآخرين ومقدساتهم .. 

وعليه فإن فك الارتباط بين ممارسة الحرية والتصرف بإساءة إلى ثوابت الآخرين ومقدساتهم تتجلى العلاقة على نحو إيجابي بين المقدس والحرية .. بمعنى أن المقدس لا يقيد حرية الإنسان ، لأن هذه الحرية من لوازم إنسانية الإنسان ، ولكنه ( أي المقدس ) يرفض الإساءة المعنوية والمادية لأي إنسان آخر أو منظومة عقدية أخرى .. 

لهذا فإن فك الارتباط بين الالتزام بقيمة الحرية وأشكال الإساءات التي تمارس يساهم في تعميق مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي ، ويزيل العديد من الهواجس والالتباسات التي يعيشها بعض الناس تجاه قيمة الحرية .. 

فالحرية ليست تفلتا من الأخلاق ، وليس تشريعا للإساءة ، وليست وسيلة لهدم الثوابت والمقدسات ، وإنما هي ممارسة عقلية ونقدية ، تستهدف تظهير الحقائق باستمرار ومنع قمع السؤال مهما كان موضوعه وإبراز مستديم لإنسانية الإنسان التي لا يمكن أن تتجلى بدون الحرية قولا وفعلا .. 

2-المقدس لا يشرع للتطرف وهتك الحرمات : 

وفي مقابل الحرية التي ترفض الإساءة المعنوية والمادية لأي طرف من الأطراف ، المقدس لا يشرع في سياق الدفاع والذود عنه ممارسة التطرف والتشدد والغلو أو هتك الحرمات والأملاك العامة والخاصة .. لأن كل هذه الأشكال ليست دفاعا عن المقدس وثوابته ، وإنما هي افتئات بحق المقدس .. 

لهذا فإننا في الوقت الذي نمارس النقد تجاه أولئك النفر الذي يمارس الإساءة المعنوية والمادية بحق الآخرين باسم الحرية ، في ذات الوقت نرفض ممارسة التطرف وقتل الأبرياء وهتك الحرمات والأضرار بالأملاك الخاصة والعامة باسم الدفاع عن المقدس وثوابت الأمة .. فإذا كان التلفزيون المغاربي ، ارتكب خطئا في عرض الفيلم الكرتوني المسيء للذات الإلهية ، فإن الرافضين لهذا العرض ، ارتكبوا بدورهم خطئا شنيعا تجسد في ممارسة التطرف وقذف الناس بدون وجه حق وتدمير بعض الممتلكات الخاصة والعامة .. 

فالمقدس لا يتم الدفاع عنه ، بوسائل وآليات يرفضها ولا تنسجم ونظام قيمه التشريعي والأخلاقي .. فالمقدس لا يتم الدفاع عنه بهدم قيم الحرية وهتك الكرامة الإنسانية ، وإنما يتم الدفاع عنه ، بالالتزام بهذه القيم ومقتضياتها المتنوعة .. كما أن الحرية كقيمة وممارسة ، لا يتم الدفاع عنها ، عبر ارتكاب الموبقات والمحرمات ، ومصادمة الناس في مقدساتهم ، وإنما من حقك الأصيل أن تعبر عن قناعاتك وأفكارك ، دون أن تتعدى على حقوق الآخرين المعنوية والمادية .. فكما أن من حقك أن تؤمن بفكرة وتعبر عنها ، من حق الآخرين أيضا الإيمان بفكرة والتعبير عنها .. وإيمانك بفكرة ، لا يجعلك أنت الوحيد القابض على الحق والحقيقة ، كما أن إيمان الآخرين بذلك ، لا يحولهم وحدهم هم القابضون على الحقيقة .. 

فنحن مع الحرية وهي حق مصان للجميع ، وهذا الحق لا يعني بأي حال من الأحوال ، أنه يشرع لأحد حق الافتئات على مقدسات الناس وكراماتهم .. 

فالحرية هي بوابة الدفاع عن المقدس وثوابت الأمة .. والمقدس ليس نقيضا للحرية ، بل هو أحد المدافعين عنها ، والمانحين لها مضامين إنسانية وحضارية .. 

فالتعصب لا يحمي المقدسات ، بل يشوهها ، ويخيف الناس منها .. كما أن العنف لا يوقف الإساءات التي قد تمارس تجاه مقدسات الأمة وثوابتها .. 

لهذا فإننا نعتقد أن الإساءات المعنوية والمادية تبعد العلاقة على المستوى الإنساني بين الحرية والمقدس ، كما أن التعصب والتطرف وانتهاك الكرامات والحرمات ، يعمق الفجوة بين المقدس والحرية .. 

والصورة المثلى التي تنشدها المجتمعات العربية والإسلامية ، هي أن تعيش حريتها كاملة على قاعدة احترام مقدساتها .. 

حق الاختلاف

ثمة تصورا ورؤية أيدلوجية وفكرية وسياسية ، قائمة على ضرورة أن تتحد قناعات الناس وأفكارهم وآراءهم ، حتى يتسنى لهم صناعة التقدم أو الانخراط في مشروع التطور في مجالات الحياة المختلفة .. فهي تصورات وآراء ، لا تحبذ التنوع والتعدد والاختلاف ، وإذا امتلكت القدرة المادية أو السلطة ، فإنها تستخدم وسائل قسرية لانجاز مفهوم الوحدة بدحر وإفناء كل حقائق التعدد والتنوع من الفضاء الاجتماعي .. 

لهذا فإن هذه الأيدلوجيات تعمل بآليات متعددة ومتداخلة ، لإنهاء كل مظاهر التعدد والتنوع .. وذلك لأن فهمها للوحدة قائم وكأنها المعادل الموضوعي للرأي الواحد والموقف الواحد .. وهذا بطبيعة الحال مما تأباه نواميس الحياة وحقائق مجتمعاتنا التاريخية والثقافية والواقعية .. 

فالوحدة لا تساوي بالضرورة ، أن تكون كل قناعاتنا ومواقفنا واحدة ومتطابقة في كل شيء .. ومن يبحث عن الوحدة بهذا المعنى ، فهو أحد حالتين : إما أنه سيصدم بحقائق التنوع الراسخة في الوجود الاجتماعي والإنساني ، مما يجعله يتراجع عن رؤيته الشوفينية والعدمية للوحدة ، أو إنه سيمارس القهر والعنف من أجل إنجاز مفهومه للوحدة . ولا ريب أن استخدام وسائل القهر وآليات العنف ، في كل التجارب الإنسانية ، لا تفضي على الصعيد الواقعي إلى الوحدة الصلبة في الفضاء الاجتماعي والسياسي .. بل هي ( أي آليات العنف ووسائل القهر ) تؤسس لتشظيات وانقسامات عميقة عمودية وأفقية في المجتمع الواحد .. ولعل الذي يؤكد هذه الحقيقة هو أن الإنسان أو الجهة التي تستخدم العنف لبناء الوحدة الاجتماعية والسياسية ، فهي تعيش مفارقة كبرى على هذا الصعيد .. 

فباسم الوحدة يتم تجزئة المجتمع ، وباسم الوفاق والأخوة ، يتم غرس أخدود عميق بين تعبيرات المجتمع الواحد ، وباسم الاتحاد والائتلاف تتعمق أسباب الفرقة والتشرذم في الفضاء الاجتماعي .. 

فالوحدة بكل مستوياتها ، لا تنجز بوسائل عنفية وقهرية ، كما أنها لا تتحقق بدحر حقائق التنوع والتعدد ، وإنما باحترام هذه الحقائق وضمان حق الاختلاف .. 

ولعل الخطوة الأولى في هذا السياق ، هو عدم ترذيل الاختلاف ، وضمان حق الجميع في أن تكون لديهم قناعات وأفكار مختلفة عن قناعاتي وأفكاري .. 

إننا نعتقد إن ضمان حق الاختلاف بكل مستوياته ، هو الخطوة الأولى في بناء مشروع الوحدة الاجتماعية والسياسية على أسس صلبة ومستقرة ..  

ودون ذلك ستبقى الوحدة ، من الشعارات المجردة ، التي لا تسند بحقائق مجتمعية ، تحول الشعار إلى حقيقة راسخة في الوجود الإنساني والاجتماعي .. والسؤال المركزي الذي يمكن أن يوضح حقيقة حق الاختلاف من جميع أبعاده هو : كيف نحمي ونضمن حق الاختلاف في مجتمع متعدد ومتنوع على المستويين الأفقي والعمودي .. 

1-الإيمان العميق بقيمة الحرية وإن من لوازمها الأساسية صيانة حق الاختلاف .. فلا يمكن أن يدعي أي إنسان ، بأنه يؤمن بالحرية ويعمل على قمع حق الاختلاف .. لأن حماية حق الاختلاف هو إحدى الثمار الأساسية لقيمة الحرية .. 

ويبدو إننا لا يمكن أن نصون قيمة الاختلاف ، بدون تعميق قيمة الحرية في الفضاء الاجتماعي والثقافي .. فجذر حق الاختلاف ، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل الحقائق والمقاصد ، وإنما هم يجتهدوا ويعملوا العقل ويستفرغوا جهدهم في سبيل الإدراك والفهم ، وعلى قاعدة الاجتهاد وتعدد نتائجه ، يتأسس الاختلاف في الفهم والإدراك والقناعات والمواقف ، ويبقى هذا الحق مكفولا للجميع .. فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني ، وهو الوجه الآخر لحقيقة التعدد والتنوع ..  أعني أن التنوع لا بد أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه .. وهو وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة .. 

ووفق هذا  المنظور لا يشكل الاختلاف نقصا أو عيبا بشريا يحول دون إنجاز التطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ .. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان ، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار .. 

وإجماع الأمة تاريخيا حول قضايا فكرية أو سياسية وما شابه ذلك ، ليس وليد الرأي الواحد ، وإنما تحقق الإجماع عن طريق الاختلاف الذي أثرى الواقع ، وجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها وتتراكم حتى وصلت الأمة إلى مستوى الإجماع .. 

والإسلام بكل نظمه وتشريعاته ، كفل حق الاختلاف ، واعتبره من النواميس الطبيعية ، وجعل التسامح والعفو سبيل التعامل بين المختلفين .. فحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة والأنانية ، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير ، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو .. 

فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل ، وإنما هو ناموس كوني وجبلة إنسانية .. النزاع والخلاف والتشرذم والتفرقة ، هي التي تساوي الإثم والخلل .. وعلى هذا من الضروري أن نجدد رؤيتنا للاختلاف ونتعامل معه وفق عقلية جديدة ، لا ترى فيه إثما ومعصية  ، وإنما قدرة مفتوحة ومتواصلة لإثراء الحقيقة والواقع .. 

2-ما دام من حق الجميع أن يختلف عن غيره ، ويعبر عن هذا الاختلاف ضمن وسائل سلمية وحضارية ، من الضروري أو نوضح أن الذي ينظم هذه المسألة هو وجود منظومة قانونية متكاملة ، توضح الحدود ، وتحول دون الافتئات على أحد ، أو خلق حالة من الفوضى في المجتمع والوطن الواحد .. فسيادة القانون هي ضمانة الجميع للتعبير عن آرائهم وأفكارهم ، دون أن يقود هذا الحق إلى خلق الفوضى في المجتمع .. 

وعليه فإن حق الاختلاف لا يمكن صيانته وإدارته في إطار اجتماعي ، إلا بسيادة القانون الذي يتعامل مع الجميع على قدم المساواة ، بدون تحيز لأحد أو تغطية لتصرفات طرف دون بقية الأطراف .. فالعلاقة بين حق الاختلاف وسيادة القانون ، علاقة عميقة ، لأنه لا يمكن ضمان حق الاختلاف على المستويين الاجتماعي والوطني بدون سيادة القانون .. والقانون بدون ضمان حق الاختلاف ، سيتحول إلى غطاء لتمرير ممارسات وتصرفات لا تنسجم وروح القانون وطبيعة التنوع الذي يحتضنها أي وجود إنساني .. والقانون هو الذي يضمن عدم إنتاج العصبيات الدينية والمذهبية والقومية دون أن يفتئت على خصوصياتها .. 

وخلاصة القول : إن دولنا ومجتمعاتنا العربية مطالبة بحماية حق الاختلاف وضبطه بمنظومة قانونية وذلك من أجل ضمان الاستقرار السياسي وفق أسس سليمة وعميقة.. 

الاختلاف وضرورات العدالة

على المستوى الواقعي ثمة مشكلة فكرية ـ سلوكية يتورط بها الكثيرون . ومفاد هذه المشكلة أن الاختلاف سواء كان فكريا أو اجتماعيا أو سياسيا , في غالب الأحيان يبرر ويسوغ لأحد طرفي الاختلاف والتباين أن يمارس التسقيط والاغتيال المعنوي للمختلف والتعدي على بعض حقوقه سواء كانت مادية أو معنوية . 

وحين التأمل في هذا السلوك , نجده وفق المعايير الشرعية والأخلاقية , مما لا ينبغي الوقوع فيه . بمعنى لا توجد مسوغات شرعية تغطي أو تبرر لأحد طرفي الاختلاف التعدي على حقوق الطرف الآخر سواء كانت المادية أو المعنوية . وإن الاختلاف ليس مبررا كافيا للتعدي على حقوق المختلف . 

ولكن على المستوى الواقعي ثمة وقائع عديدة تثبت أن الاختلاف سواء في دائرته الفكرية أو في دائرته السياسية يقود إلى انتهاك حقوق المختلف سواء كانت المادية أو المعنوية . 

ولكي تتضح الرؤية لطبيعة العلاقة بين الاختلاف والعدالة نذكر النقاط التالية : 

1ـ الاختلاف في كل دوائره ومستوياته , حالة طبيعية , لا يمكن أن تخلو أية ساحة اجتماعية منها . ولكن غير الطبيعي في هذا السياق , هو أن يدفعك هذا الاختلاف بأي مستوى من مستوياته , إلى التعدي المادي أو المعنوي على حقوق من اختلف معك .. 

ومعالجة هذا المسألة لا يمكن أن تكون بإفناء عناصر الاختلاف , لأنه من لوازم الحياة الاجتماعية , بمعنى حيث تكون هناك حياة اجتماعية , ستكون هناك اختلافات وتباينات في وجهات النظر , وإن هذه الاختلافات ستقود من يتخلى عن أخلاقه أو معاييره الشرعية إلى التعدي على حقوق من يختلف معه . 

ولو تأملنا في طبيعة الإساءات التي تصدر في مجتمعنا فيما يتعلق وظاهرة الاختلاف , نجد حين التأمل العميق أن أحد أطراف الاختلاف يدفعه الاختلاف حقيقة أو إدعاء إلى تبني مواقف عدائية من الطرف الآخر المختلف معه . 

وهذا يعني أن الاختلاف الفكري أو السياسي , يفضي على المستوى الواقعي إلى انتهاك الحقوق المادية أو المعنوية . 

2ـ مع أن الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته , حالة طبيعية في حياة الإنسان فردا وجماعة , إلا أننا جميعا مقصرون في فقه الاختلاف . وهذا التقصير يساعد على أن يقودك الاختلاف إلى انتهاك حقوق من تختلف معه . لهذا فإن من الأمور المطلوبة في حياتنا الإنسانية والاجتماعية هو فقه الاختلاف بشكل جوهري وحقيقي . 

لأننا نعتقد أن فقه الاختلاف سيقود إلى فك الارتباط بين الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته وانتهاك حقوق المختلف . بحيث يتم التعامل مع الاختلاف في سياق حدوده الطبيعية التي لا تتعداه إلى أي شيء آخر . 

والمجتمع الذي يتمكن من فك الارتباط والاشتباك , هو المجتمع القادر على إدارة اختلافاته بشكل صحيح وإيجابي . 

وأغلب المجتمعات التي تعاني من أزمات ومآزق في علائقها الاجتماعية سواء كانوا أفرادا أو مكونات , يعود في أحد جوانبه إلى هذه العلاقة الشائكة بين الاختلاف وانتهاك الحقوق . فمن يختلف معك ليس ساحة مكشوفة لانتهاك حقوقه أو التعدي على حقوقه . 

الفصل بين الاختلاف والتعدي على الحقوق , هو الحل الأمثل لكل الأطراف . 

والديمقراطية في التجربة الحضارية الغربية , هي في أحد جوانبها , محاولة مؤسسية لضبط الاختلاف وعدم استخدامه كمبرر أو مسوغ للتعدي على الحقوق . 

والمجتمعات الغربية قبل لحظة التطور الحضاري , كانت تعاني من هذه الإشكالية , التي ساهمت في إدخال المجتمعات الغربية في حروب دينية وغير دينية مع بعضها البعض . وبداية اللحظة التي تمكنت فيها المجتمعات الغربية من الانتصار على واقعها المرير , هي تلك اللحظة التي فكت الارتباط فيها بين الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته , وأشكال انتهاك الحقوق.  و الديمقراطية في أبعادها الاجتماعية السياسية , هي التي جنبت المجتمعات الغربية الدخول في معارك دائمة على خلفية الاختلاف الفكري والسياسي .

ونحن في الدائرتين العربية والإسلامية , ومن أجل التخلص من الكثير من الأزمات والمآزق الداخلية , أحوج ما نكون لبناء العلاقة بين الاختلاف والعدالة . بحيث لا يتحول الاختلاف إلى مبرر للتعدي على الحقوق أو عدم الالتزام بمقتضيات العدالة . 

3ـ العدالة الاجتماعية والسياسية تتجاوز في جوهرها , البعد الأخلاقي والوعظي . بمعنى أن المطلوب من الجميع سواء كنا نعيش لحظة اختلاف  أو لحظة صراع , المطلوب هو الالتزام بكل مقتضيات العدالة . وإن أحد الأسباب المباشرة لتجاوز حدود ومعايير العدالة , هو حينما تبرز ظاهرة الاختلاف بين البشر سواء بعنوان سياسي أو تحت يافطة فكرية بحيث يقود الاختلاف الفكري والسياسي إلى تجاوز حدود العدالة وممارسة العدوان المعنوي أو المادي مع من يختلف معنا سواء كان فردا أو جماعة . 

لذلك ثمة ضرورة قصوى لسيطرة قيم العدالة على كل أطراف الاختلاف . بحث لا يتحول هذا الاختلاف إلى مبرر إلى انتهاك الحقوق أو التعدي على مقتضيات العدالة . 

فمن حقنا جميعا أن نختلف مع بعضنا البعض , ولكن ليس من حق أحد أن ينتهك حقوق من يختلف معه . 

فالإنسان بطبعه نزاع إلى جعل الآخرين مثله في القناعات والسلوك , ولكن دون هذا خرط القتاد . وحينما لا ينضبط الإنسان بضوابط العدالة فإن هذه النزعة التي تتحكم في حياة الإنسان ومسيرته المتنوعة , هي التي تبرر له تدفيعه ثمن الاختلاف معي أو التباين مع وجهات نظري . 

وعلى كل حال ما نود أن نقوله في هذا السياق : أن فك الارتباط والاشتباك بين الاختلاف والتعدي على حقوق المختلف المعنوية والمادية , هو أحد المداخل الأساسية لمعالجة الأزمات والمآزق التي تعاني منها مجتمعاتنا .

وإنه ليس ثمة مسوغات شرعية أو أخلاقية , للتعدي على حقوق المختلف . وإن المطلوب دائما صيانة حقوق المختلف . فمن حق الجميع أن يختلف مع الجميع , ومن حق الجميع أن يصون حقوقه ويمنع التعدي عليها , وإن التباين في الأفكار والآراء والمواقف , لا يسوغ لأي طرف التعدي على حقوق الطرف الآخر سواء كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية . 

وفي زمن التعصب المذهبي نحن أحوج ما نكون إلى ضرورة إبراز هذه القيم التي تمنع التعدي على حقوق المختلف معه . وإن الاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف التعدي على حقوق الطرف الآخر . 

بهذا نصون مجتمعاتنا من الكثير من المخاطر التي تهدد استقرار المجتمعات ووحدتها الداخلية .  

العبور نحو المختلف

ربما يتساءل كثيرون من مختلف المواقع عن جدوى الحوار وضرورته بين التعبيرات والتيارات والأطياف الفكرية والسياسية ، في هذا الوقت بالذات الذي تتزايد فيه صور الشحن الطائفي والاصطفافات المذهبية في المنطقة كلها . ولعل بعض هذه التساؤلات ، تنطلق من خلفية ضغط الواقع الطائفي في الأمة عليهم . فهؤلاء لا يعارضون مبدأ الحوار ، ولا يستنكفون من حيثياته ومتطلباته ، ولكنهم يروا بأم أعينهم الكثير من الصور الواقعية السيئة ، التي تضغط على تفكيرهم وحياتهم ، بحيث أنهم لا يروا في هذا الحوار كرافعة حقيقية وكخطوة نوعية في سبيل الخروج من نفق المكايدات الطائفية . 

وعلى كل حال نحن نقول : مهما كان الواقع سيئا على هذا الصعيد ، فإننا جميعا بحاجة أن نتحاور مع بعضنا البعض . ليس حوار طرشان ، وإنما حوار حر وموضوعي ولا يستهدف الانتقال المذهبي من موقع لآخر ، وإنما يستهدف تنمية الجوامع المشتركة وخلق المعرفة العميقة ببعضنا وصياغة وثيقة للتفاهم والتلاقي على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات . 

والحوار الذي نتطلع إليه في داخل وطننا وفي عموم الأمة ، هو الذي يتجاوز نمط السجالات المذهبية والتراشق بالاتهام والاتهام المضاد ، إلى خلق مساحات وآليات للتعايش والتبادل على نحو إيجابي وبناء . 

ومن الضروري أن ندرك جميعا ، ومن مختلف مواقعنا المذهبية والفكرية والاجتماعية ، أن الركام التاريخي لا يمكن ضبطه وتنقيته من الشوائب والتأثيرات السلبية ، إلا بالمزيد من الوعي والعمل المستديم لتفكيك العقليات والثقافات التي تغذي الشحن الطائفي المقيت بين المسلمين. وإن وجود ظواهر وممارسات طائفية معاصرة ، ينبغي أن لا يدفعنا إلى الاصطفافات الطائفية ، وإنما ينبغي أن يدفع للعمل من أجل خلق الحقائق الوحدوية ، التي تعطل مفعول تلك الممارسات الطائفية البغيضة . فالممارسات الطائفية مهما كان مطلقها والقائم عليها وبها ، هي مدانة ومستنكرة ، وينبغي الوقوف في وجهها بحزم . 

ونحن هنا لا نمتلك علاجا سحريا للمشكلة الطائفية في الأمة ، وإنما ما نود أن نؤكد عليه هو النقاط التالية : 

  1. إن إنهاء مظاهر وحالات التمييز والإقصاء وبث الكراهية والبغضاء بين أتباع التيارات والأطياف الفكرية والسياسية في الواقع المعاصر ، يتطلب العمل على تجديد رؤيتنا وفهمنا إلى المقولات التي كتبها علماء كبار من مختلف التعبيرات في ظل ظروف وأوضاع خاصة ، والتي فهم منها بشكل أو بآخر تسويغ هذه الممارسات الشائنة . وذلك لأنه بدون تسليط الضوء على هذه المقولات ، وتفكيك الأفهام السوداء المتعلقة بها ، فإن هذه الممارسات ستستمر بالبروز . 

فـ ” تبدو الحاجة ماسة إلى تسليط الضوء على النصوص / المراجع التي يتمترس وراءها كل فريق ، في شن حربه الرمزية ( أو الفعلية ) ضد الآخر ، عبر إطلاق تهم التكفير أو التبديع والتحريف . وهكذا ، يدان الآخر أو يضطهد ، لمجرد الاسم الذي يحمله ، سني أو شيعي أو مسلم أو مسيحي أو يهودي ، إلخ … ، وذلك من دون التعرف إلى سيرته وعمله ، بل هو يدان في بعض النصوص ولو كان من أهل العمل الصالح . نحن هنا إزاء نصوص هي أثر من آثار حروبنا الرمزية في بربريتها الدينية أو المذهبية ، لا شبه لها سوى ما تخلفه الحروب الوحشية من الآثار الهمجية في أجساد البشر أو في معالم الحضارة والعمران . هذه النصوص الفضائح هي أخطر من أسلحة الدمار الشامل ، إذ هي التي تقيم سدودا منيعة من الحقد والبغض بين أتباع الطوائف ، بقدر ما تسهم في صنع ذاكرتهم العدائية الموتورة . هنا مكمن الداء الذي ينبغي إخضاعه لمبضع التشريح والتحليل لاستئصال الجرثومة التي عششت طويلا في النفوس ، لكي تخرب العقول وتحول الهويات إلى محميات عنصرية بأسمائها ورموزها وطقوسها وأحكامها وفتاواها . 

ولذا ، فإن محاولات التقريب والحوار محكوم عليها بالفشل ما دامت مفردات الشرك والكفر أو البدعة والضلالة تشكل صلب العقيدة والعدسة التي من خلالها يرى الواحد إلى غيره ، لكي يدينه وينزه نفسه . ” ( راجع علي حرب ، الإنسان الأدنى – أمراض الدين وأعطال الحداثة ، ص106 ، المؤسسة العربية للدراسات 2005 ) .  

لهذا وفي هذا السياق ، نحن بحاجة إلى الحفر المعرفي والتاريخي في كل المقولات التي تغذي بشكل مباشر أو غير مباشر حالة العداء والكراهية بين أتباع المذاهب الإسلامية . وإن شمس الحرية والعدالة لن تشرق في مجتمعاتنا ، إلا بصياغة العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع الواحد ، بحيث تقوم العلاقة على أسس الاعتراف المتبادل والتعاون والاحترام العميق لبعضنا البعض . 

و ” المجدي الآن نقد الذات على النحو الذي يؤدي إلى أن يتحول الواحد عما هو عليه ، بكسر نرجسيته والزحزحة عن مركزيته الطاردة لما عداه . هذا هو المتاح ، معرفيا وعمليا ، إذا شئنا أن لا تظل مسألة التقريب أو الحوار تعالج معالجات عقيمة وغير مجدية . فالحوار بين السنة والشيعة ، أو بين الإسلام والمسيحية ، وكما تشهد التجربة اللبنانية ، يحتاج إلى إعادة تأهيل وبناء ، في كل ما يتعلق بسياسة الحقيقة والهوية ، وطريقة إدارة الشريعة والعقيدة ، بحيث يكف الواحد عن الاعتقاد بأنه مالك الحقيقة ومحتكر الشرعية ، أو بأنه ممثل الاستقامة وصاحب الفرقة الناجية .” ( راجع المصدر السابق ص 112 ) .

ونجاحنا على صعيد الحوار المذهبي والفكري ، مرهون بقدرتنا جميعا على إخراج أنفسنا والمجتمع من المماحكات والسجالات المذهبية ، والعمل على توسيع مساحات التعايش والتواصل والشراكة في مختلف شؤون الوطن والمجتمع . فهذه المساحات ومتوالياتها وتأثيراتها وفضاءاتها العامة ، هي التي تذلل الكثير من العقبات ، وتسهل شروط التقريب والتفاهم ، وتزيل من الطريق كل ما يحول دون التلاقي والتعاون . 

ولا بد أن يتذكر الجميع أن بث الكراهية تجاه المختلف والمغاير ، لا يزيد الذات قوة بل يعريها من العديد من القيم والمضامين الإنسانية . كما أن الخوف من الآخر والنفور منه ، لا يحصن الذات ولا يبقيها بعيدا عن المخاطر والتحديات . فالتواصل والانفتاح وتوسيع المساحات المشتركة بين مختلف التعبيرات والمكونات ، هو السبيل الذي يضمن حقوق الذات وحقوق الآخرين ، ويجنب الجميع مخاطر الفتنة والاحتراب الداخلي . 

  1. ضرورة فك الارتباط بين الاختلافات المذهبية بكل مستوياتها ودوائرها ، وبين حقوق الإنسان وضرورة صيانتها ومنع التعدي عليها . فالاختلافات مهما كان حجمها وشكلها وعمقها ، لا تبرر لأي أحد أن يتعدى على حقوق الآخرين ويمارس بحقهم صنوف التهميش والتمييز. فحقوق الإنسان ينبغي أن تكون مصانة من قبلنا جميعا ، بصرف النظر عن مدى قناعتنا أو قبولنا للأفكار أو العقائد التي يتبناها الطرف الآخر . لنا حق الحوار والمعرفة والنصيحة ، ولكن علينا واجب الاحترام وصيانة الحقوق والكرامات . 

ولعلنا لا نبالغ حين القول : إن الكثير من المشاكل التي تجري بين المسلمين لأسباب مذهبية ، هي بفعل الدمج التعسفي بين واقع الاختلاف وترجمته إلى سلوك إقصائي – عدواني ضد الآخر المختلف. بينما المبدأ القرآني يؤكد على ضرورة احترام الإنسان بصرف النظر عن عقيدته ومذهبه ، إذا لم يمارس عدوانا عليك . يقول تبارك وتعالى [ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ] .( المائدة ، الآية 8 ) . 

فالمطلوب قرآنيا هو أن نلغي من ذواتنا كل النوازع والأفكار والمشاعر المنحرفة تجاه الآخر الذي يختلف معنا دون ممارسة العدوان علينا . فـ ” الإيمان يمثل الضمانة الحقيقية التي يقدمها لكل الناس الذين يعيشون في داخله ممن يلتقون معه في العقيدة أو يختلفون معه فيها ، فلا مجال – مع الإسلام – للظلم حتى للأعداء . لأن قضية العداوة تخضع لأوضاع ومواقف معينة تفرض نوعا من السلوك السلبي الذي لا يمكن أن يبتعد عن الموازين والقوانين الشرعية التي تعتبر أن للعداوة مساحة لا يمكن أن يتعداها الإنسان المؤمن ، وهي مساحة الحقوق التي اكتسبها هذا العدو أو ذاك ، من خلال المواثيق والمعاهدات ، أو من خلال الأحكام الشرعية التي أنزلها الله مما يحترم فيه بعض جوانبه الإنسانية ” ( راجع تفسير من وحي القرآن – المجلد الثالث ص 59 ) . 

ولكي نفك الارتباط بين شرعية الاختلاف في الدائرة الإنسانية ، وصيانة حقوق الإنسان ، فالاختلاف لا يشرع إلى الامتهان ، كما أن التمايز في الدين أو المذهب أو القومية ، ليس سببا لممارسة الظلم والعدوان عليه . 

أقول من أجل ضمان حقوق الإنسان في دائرة الاختلاف والتمايز ، من الضروري ممارسة النقد الواعي لذواتنا . لأننا جميعا مسئولون عن الكثير من الأقوال والممارسات التي تعكس بشكل أو آخر قبولنا ولو الضمني بممارسة التمييز أو الإقصاء بحق الإنسان الذي يختلف معنا وتتمايز رؤيته عن رؤيتنا وأفكاره عن أفكارنا . بينما مقتضى العدالة يتطلب خلق مسافة نوعية بين اختلافاتنا بكل مستوياتها وفضاءاتها ، وبين ضرورات صيانة حقوق وكرامة الإنسان . 

فكل الأطراف بحاجة أن تفحص نفسها ، وتطهرها من كل الأدران والرواسب التي تحملها في الرؤية والموقف من الآخر . 

فعلى المستوى الواقعي والجوهري ، الجميع يحمل رؤية اصطفائية حول ذاته ، وتحقيرية بمستوى من المستويات تجاه الآخر الذي يختلف معه في دائرة من دوائر الانتماء أو الفكر . 

ولا خيار أمامنا إذا أردنا السلم الأهلي والعيش المشترك ، إلا نقد ذواتنا وفحص أفكارنا وتشكيل مجالات وفضاءات للتواصل المستديم مع الآخر . ” ولذا فنحن لا نتحاور مع الآخر ، لكي نعرف من المخطئ ومن المصيب ، أو من الضال ومن المهتدي ، ولا نتحاور معه وفقا لمبدأ التسامح لكي نتنازل له عما نعتقده صوابا عندنا ، أو خطأ عنده ، بل نتحاور لكي نكسر الحواجز ونتعدى الخطوط الحمر ، وعلى نحو يتيح لكل واحد أن يتحول عما هو عليه ، لكي يسهم في تحويل الآخر . ” ( راجع علي حرب ، مصدر سابق ، ص 243 ). 

ولكي تضبط الاختلافات المذهبية في الدائرة الاجتماعية ، ينبغي أن تدار بمنطق وعقلية التواصل والاعتراف المتبادل والشراكة ، لا بعقلية الاستئثار والاصطفاء والقطيعة . 

  1. تبقى المواطنة بحقوقها وواجباتها وفضاءاتها العميقة ، هي الوعاء الذي ينبغي أن نعمل جميعا لتقويته وتعزيزه . فالانتماءات المذهبية أو القبلية ، ليست بديلا عن حضن ووعاء المواطنة . لذلك فإن الحوار والتفاعل المذهبي في مختلف الدوائر ، من الضروري أن يتجه بكل قضاياه وعناوينه لتعميق خيار المواطنة والانتماء الوطني . 

فإننا ندعو إلى أن يحترم كل إنسان خصوصياته الثقافية والمذهبية ، ولكن ليس من أجل العزلة والانكفاء والانحباس في هذا الإطار ، وإنما من أجل أن تتوفر كل الظروف والشروط ، التي تسمح لكل الخصوصيات ، لكي تمارس دورها في إغناء مفهوم المواطنة وتعزيز وحدة الوطن وعزته . 

فالتعددية لا تعني بأي حال من الأحوال تشريع الفوضى أو غياب الجوامع المشتركة بيت التعدديات والتنوعات الموجودة في الإطار الواحد . لهذا فإننا في الوقت الذي ندعو كل الخصوصيات أن تشعر بذاتها ، وتمارس شعائرها ، في ذات الوقت نحذر من العزلة وخلق الكانتونات الخاصة والضيقة في الوطن الواحد . فنحن مع الحرية التي ينبغي أن تمنح للانتماءات المذهبية ، ولكن في ذات الوقت مع تفعيل دور المواطنة وتنمية حقائقها ومتطلباتها في الفضاء الاجتماعي والثقافي . 

فالمواطنة بما تعني من حقوق وواجبات ، والتزام ومسؤوليات ، ومضامين دستورية وسياسية ، هي الوعاء الذي يجب أن تتفاعل فيه كل الخصوصيات والانتماءات . والأوطان دائما لا تبنى بتنمية الأحقاد والممارسات الطائفية البغيضة ، بل بالوئام والتلاقي وتجاوز كل ما يعكر صفة العلاقة السليمة بين مختلف المكونات والتعبيرات . 

وإن تحقيق المعاني الجوهرية لمفهوم المواطنة في فضائنا السياسي والثقافي والاجتماعي ، ليس أمرا سهلا ويسيرا بل يتطلب جهودا نوعية على مختلف المستويات ومن جميع الشرائح والفئات في المجتمع والوطن . 

  1. إن العلاقة الإيجابية مع الآخر المذهبي والفكري ، هي بحاجة بشكل دائم إلى ثقافة تسند هذا الخيار وتعززه ، وتوضح لمختلف شرائح المجتمع أهمية هذا الخيار ودوره الحقيقي في تكريس الاستقرار السياسي والاجتماعي ، ومقاومة كل المخاطر التي تستهدف استقرارنا ووحدتنا. فالعلاقات الإيجابية بين أهل المذاهب الإسلامية ، ليست وصفة جاهزة ، ولا تنجز على الصعيد الواقعي بمقولة هنا أو خطاب هناك فحسب ، بل هي تتطلب ثقافة ورؤية عميقة واستراتيجية واضحة المعالم ، نتجاوز من خلالها كل إكراهات الواقع ، وتمنع دون أن نتأثر من أحداث التاريخ والواقع المعاصر واضطراباتهما . 

لهذا كله ومن أجل العبور نحو المختلف ، وتوسيع دائرة التواصل ، وتعميق خيار التقارب والتفاهم بين مختلف المكونات والتعبيرات ، نحن أحوج ما نكون إلى أنشطة توعوية وثقافية متواصلة ، مؤسسية وفردية ، رسمية وأهلية ، تستهدف إغناء مشروع التفاهم والحوارات الإيجابية بين أطياف المجتمع ، وتدفع شرائح المجتمع المتعددة نحو المساهمة في تعزيز خيار الانفتاح والتواصل ، وتزيل من العقول والنفوس ، الكثير من الهواجس والمخاوف التي تحول دون التفاعل الإيجابي مع مشروع التآخي والوحدة بين أهل المذاهب الإسلامية كافة. 

وخلاصة الأمر : أن الظروف الحساسة والتحديات الخطيرة التي تواجهنا جميعا من روافد عديدة ، تقتضي منا العمل على تحصين وضعنا الداخلي ، بالمزيد من التلاقي والتلاحم وإفشال كل مخططات الفتنة والتشظي التي تستهدفنا وتضرنا جميعا . ولا ريب أن العبور نحو الآخر الداخلي ، وتوطيد العلاقة معه ، وإزالة كل رواسب الاحتقان وفتح المجال من قبل كل الأطراف للحوار والتلاقي على أسس ومبادئ تنسجم وثوابتنا جميعا ، وتجيب على كل التحديات التي تواجهنا وتبلور الرؤية نحو المقصد والمستقبل الذي ننشده جميعا ونتطلع إليه . 

وتبقى الوحدة الوطنية هي خيارنا الدائم والثابت ، والذي من الأهمية أن نعمل على ترسيخ أسسه وتجاوز كل ما يشوهه وتعزيز كل فرصه ومجالاته . وكل هذا بحاجة إلى تفاعل خلاق من قبل الجميع ، وإلى مبادرات ثقافية واجتماعية ، تعزز هذا النهج وتعمق متطلباته في كل المجالات . 

ودينامية الحوار والوحدة والتواصل ، هي دينامية الإصرار على تجاوز كل محن الواقع وصعوباته ونماذجه المنحدرة من الصراعات والتوترات والنزاعات ، وذلك من أجل بناء رؤية ووقائع للعيش المشترك والتفاعل الخلاق بين مختلف المكونات . 

فنحن مع الحوارات المذهبية والتواصل المعرفي والإنساني ، مهما كانت ضغوطات الواقع وإكراهاته . ووجود وقائع وممارسات طائفية في فضائنا وواقعنا الراهن ، يحملنا مسؤولية إضافية على هذا الصعيد. فليس المطلوب هو المزيد من الاصطفافات الطائفية وبث الفتنة المذهبية في الوطن والمجتمع ، وإنما فتح ممكنات ومجالات للحوار والتواصل وتمتين أواصر الوحدة والتعارف بين شركاء الوطن والمصير . 

وما يجري في الساحة العراقية من أحداث طائفية مقيتة ومدانة ، من الضروري أن لا تجرنا إلى التمترس المذهبي ، والعزلة الاجتماعية عن بعضنا البعض ، وإنما لا بد أن تزيد من وعينا وإدراكنا إلى ضرورة الإسراع في خلق مبادرات ومشروعات وطنية ، تحصن مجتمعنا من مخاطر الفتنة والانقسام ، وتعزز من خيار التفاهم والتلاقي والوحدة بين مختلف شرائح مجتمعنا ومكونات وطننا . وتعالوا جميعا بدل أن نلعن ظلام الفتنة الطائفية وبث الكراهية والحقد بين الناس ، أن نشعل شمعة الحوار والتسامح والاعتراف بالآخر أخا وشريكا . فالناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق .          

نظام الاختلاف الثقافي

ثمة تصورا ورؤية أيدلوجية وفكرية وسياسية ، قائمة على ضرورة أن تتحد قناعات الناس وأفكارهم وآراءهم ، حتى يتسنى لهم صناعة التقدم أو الانخراط في مشروع التطور في مجالات الحياة المختلفة .. فهي تصورات وآراء ، لا تحبذ التنوع والتعدد والاختلاف ، وإذا امتلكت القدرة المادية أو السلطة ، فإنها تستخدم وسائل قسرية لانجاز مفهوم الوحدة بدحر وإفناء كل حقائق التعدد والتنوع من الفضاء الاجتماعي .. 

لهذا فإن هذه الأيدلوجيات تعمل بآليات متعددة ومتداخلة ، لإنهاء كل مظاهر التعدد والتنوع .. وذلك لأن فهمها للوحدة قائم وكأنها المعادل الموضوعي للرأي الواحد والموقف الواحد .. وهذا بطبيعة الحال مما تأباه نواميس الحياة وحقائق مجتمعاتنا التاريخية والثقافية والواقعية .. 

فالوحدة لا تساوي بالضرورة ، أن تكون كل قناعاتنا ومواقفنا واحدة ومتطابقة في كل شيء .. ومن يبحث عن الوحدة بهذا المعنى ، فهو أحد حالتين : إما أنه سيصدم بحقائق التنوع الراسخة في الوجود الاجتماعي والإنساني ، مما يجعله يتراجع عن رؤيته الشوفينية والعدمية للوحدة ، أو إنه سيمارس القهر والعنف من أجل إنجاز مفهومه للوحدة . ولا ريب أن استخدام وسائل القهر وآليات العنف ، في كل التجارب الإنسانية ، لا تفضي على الصعيد الواقعي إلى الوحدة الصلبة في الفضاء الاجتماعي والسياسي .. بل هي ( أي آليات العنف ووسائل القهر ) تؤسس لتشظيات وانقسامات عميقة عمودية وأفقية في المجتمع الواحد .. ولعل الذي يؤكد هذه الحقيقة هو أن الإنسان أو الجهة التي تستخدم العنف لبناء الوحدة الاجتماعية والسياسية ، فهي تعيش مفارقة كبرى على هذا الصعيد .. 

فباسم الوحدة يتم تجزئة المجتمع ، وباسم الوفاق والأخوة ، يتم غرس أخدود عميق بين تعبيرات المجتمع الواحد ، وباسم الاتحاد والائتلاف تتعمق أسباب الفرقة والتشرذم في الفضاء الاجتماعي .. 

فالوحدة بكل مستوياتها ، لا تنجز بوسائل عنفية وقهرية ، كما أنها لا تتحقق بدحر حقائق التنوع والتعدد ، وإنما باحترام هذه الحقائق وضمان حق الاختلاف .. 

ولعل الخطوة الأولى في هذا السياق ، هو عدم ترذيل الاختلاف ، وضمان حق الجميع في أن تكون لديهم قناعات وأفكار مختلفة عن قناعاتي وأفكاري .. 

إننا نعتقد إن ضمان حق الاختلاف بكل مستوياته ، هو الخطوة الأولى في بناء مشروع الوحدة الاجتماعية والسياسية على أسس صلبة ومستقرة ..  

ودون ذلك ستبقى الوحدة ، من الشعارات المجردة ، التي لا تسند بحقائق مجتمعية ، تحول الشعار إلى حقيقة راسخة في الوجود الإنساني والاجتماعي .. والسؤال المركزي الذي يمكن أن يوضح حقيقة حق الاختلاف من جميع أبعاده هو : كيف نحمي ونضمن حق الاختلاف في مجتمع متعدد ومتنوع على المستويين الأفقي والعمودي .. 

1-الإيمان العميق بقيمة الحوار  وإن من لوازمه الأساسية صيانة حق الاختلاف .. فلا يمكن أن يدعي أي إنسان ، بأنه يؤمن بالحوار ويعمل على رفض حق الاختلاف .. لأن حماية حق الاختلاف هو إحدى الثمار الأساسية لقيمة الحوار .. 

ويبدو إننا لا يمكن أن نصون قيمة الاختلاف ، بدون تعميق قيمة الحوار  في الفضاء الاجتماعي والثقافي .. فجذر حق الاختلاف ، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل الحقائق والمقاصد ، وإنما هم يجتهدوا ويعملوا العقل ويستفرغوا جهدهم في سبيل الإدراك والفهم ، وعلى قاعدة الاجتهاد وتعدد نتائجه ، يتأسس الاختلاف في الفهم والإدراك والقناعات والمواقف ، ويبقى هذا الحق مكفولا للجميع .. فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني ، وهو الوجه الآخر لحقيقة التعدد والتنوع ..  أعني أن التنوع لا بد أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه .. وهو وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة .. 

ووفق هذا  المنظور لا يشكل الاختلاف نقصا أو عيبا بشريا يحول دون إنجاز التطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ .. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان ، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار .. 

وإجماع الأمة تاريخيا حول قضايا فكرية أو سياسية وما شابه ذلك ، ليس وليد الرأي الواحد ، وإنما تحقق الإجماع عن طريق الاختلاف الذي أثرى الواقع ، وجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها وتتراكم حتى وصلت الأمة إلى مستوى الإجماع .. 

والإسلام بكل نظمه وتشريعاته ، كفل حق الاختلاف ، واعتبره من النواميس الطبيعية ، وجعل التسامح والعفو سبيل التعامل بين المختلفين .. فحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة والأنانية ، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير ، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو .. 

فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل ، وإنما هو ناموس كوني وجبلة إنسانية .. النزاع والخلاف والتشرذم والتفرقة ، هي التي تساوي الإثم والخلل .. وعلى هذا من الضروري أن نجدد رؤيتنا للاختلاف ونتعامل معه وفق عقلية جديدة ، لا ترى فيه إثما ومعصية  ، وإنما قدرة مفتوحة ومتواصلة لإثراء الحقيقة والواقع .. 

2-ما دام من حق الجميع أن يختلف عن غيره ، ويعبر عن هذا الاختلاف ضمن وسائل سلمية وحضارية ، من الضروري أو نوضح أن الذي ينظم هذه المسألة هو وجود منظومة قانونية متكاملة ، توضح الحدود ، وتحول دون الافتئات على أحد ، أو خلق حالة من الفوضى في المجتمع والوطن الواحد .. فسيادة القانون هي ضمانة الجميع للتعبير عن آرائهم وأفكارهم ، دون أن يقود هذا الحق إلى خلق الفوضى في المجتمع .. 

وعليه فإن حق الاختلاف لا يمكن صيانته وإدارته في إطار اجتماعي ، إلا بسيادة القانون الذي يتعامل مع الجميع على قدم المساواة ، بدون تحيز لأحد أو تغطية لتصرفات طرف دون بقية الأطراف .. فالعلاقة بين حق الاختلاف وسيادة القانون ، علاقة عميقة ، لأنه لا يمكن ضمان حق الاختلاف على المستويين الاجتماعي والوطني بدون سيادة القانون .. والقانون بدون ضمان حق الاختلاف ، سيتحول إلى غطاء لتمرير ممارسات وتصرفات لا تنسجم وروح القانون وطبيعة التنوع الذي يحتضنها أي وجود إنساني .. والقانون هو الذي يضمن عدم إنتاج العصبيات الدينية والمذهبية والقومية دون أن يفتئت على خصوصياتها .. 

وخلاصة القول : إن دولنا ومجتمعاتنا العربية مطالبة بحماية حق الاختلاف وضبطه بمنظومة قانونية وذلك من أجل ضمان الاستقرار السياسي وفق أسس سليمة وعميقة..

من فقه الخلاف إلى فقه الوفاق

ثمة تحديات كبرى تواجه الواقع الإسلامي اليوم ، وهذه التحديات ليست خاصة بطرف إسلامي دون آخر ، وإنما هي تواجه المسلمين جميعا بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية ، وجميع علماء ودعاة هذه المذاهب والمدارس ، يعبرون عن هذه التحديات ، ويدعون أبناء الأمة جمعاء لمواجهة هذه التحديات وفق آليات عمل ومنهجيات تفكير متقاربة ومتطابقة في بعض عناصرها بين مختلف علماء ودعاة المدارس الفقهية الإسلامية .. 

فتحديات الأمة اليوم ، شاخصة للجميع والجميع يدركها ويعبر عن خطورتها وصعوبتها في آن .. 

وما أود أن أثيره في هذا المقال ، هو أن هذه التحديات سواء كانت داخلية أم خارجية ، لا يمكن للواقع الإسلامي المعاصر ، أن يمتلك القدرة لمواجهتها أي التحديات بدون السعي العلمي والموضوعي المتواصل ، للانتقال على مستوى النهج والاهتمام والأولويات من فقه الخلاف إلى فقه الوفاق .. بمعنى أن جميع الفرق والمذاهب الإسلامية ، تعرف ما يميزها عن بعضها البعض ، وفي تراث الجميع العقدي والفقهي والمعرفي ، الكثير من النصوص والإصدارات العلمية ، التي تركز على عناصر التباين والخلاف ، وتؤسس إليه علميا ومنهجيا .. لذلك أعتقد أن فقه الخلاف أصبح عميقا ومركوزا في نفوس الناس وعقولهم ، وهم يعيدوا إنتاجه سواء على صعيد الموضوعات أو الأدلة المستخدمة في كل حقب وأزمنة الحياة الإسلامية .. ولكن الشيء المفقود والذي يجهله الجميع ، ولم تبذل فيه جهود حقيقية على المستويين العلمي والمنهجي هو فقه الوفاق بين المسلمين .. 

فالإنسان المسلم المعاصر سواء من هذه المدرسة الفقهية والمذهبية أو تلك مليء بكل عناصر التمايز والخلاف بين المسلمين ، وبإمكان الكثير من الناس أن يتحدثوا حول فقه الخلاف بين المسلمين ساعات وساعات .. ولكن لو طلبت منه أن يتحدث في فقه الوفاق ، أو يدعو إليه ، فإنه سيعاني من صعوبات حقيقية على هذا الصعيد .. ويبدو لنا كمسلمين إذا لم نتمكن جميعا من ردم هذه المفارقة بين القدرة المتعاظمة لفقه الخلاف والفقر العميق في فقه الوفاق ، فإن التحديات التي تواجه الأمة ، سيكون تأثيرها على واقع الأمة ومستقبلها خطيرا وعميقا في آن .. 

لأنه لا يمكن لأي مكون من مكونات المذاهب الإسلامية والمدارس الفقهية ، أن تتوحد مع بعضها أو تتعاون مع بعضها وتكف عن تأسيس حروب جديدة بين المسلمين بدون من تأسيس فقه الوفاق وتطوير الجهود العلمية والمنهجية والاجتماعية التي تبذل في هذا السياق .. ففقه الوفاق بين المسلمين اليوم ، أضحى من ضرورات الوجود الإسلامي المعاصر ، وكل الأطراف الإسلامية بدون استثناء مقصرة في هذا السبيل .. 

وفي سياق العمل على تأسيس فقه الوفاق بين المسلمين المعاصرين ، أود التأكيد على النقاط التالية : 

1-ضرورة أن يكف علماء الأمة ودعاتها ومن ورائهم المعاهد الشرعية والحوزات الدينية والجامعات الإسلامية من إنتاج فقه الخلاف والنزاع والتباين بين المسلمين .. 

فموضوعات الخلاف تاريخية ، وقد أشبعت بحثا وتنقيبا لدى جميع الأطراف ، حتى أضحت جميع الأدلة المستخدمة في كل موضوعات الخلاف والتباين معروفة ويكرر مضمونها الجميع .. فالتوقف عن توليد وإظهار موضوعات الخلاف والتعامل معها وكأنها خلافات معاصرة ، هو أحد المقدمات الضرورية التي تساهم في تهيئة المناخات النفسية والاجتماعية والعلمية لتأسيس فقه الوفاق بين المسلمين .. ومن الضروري في هذا السياق بيان أن التراث الإسلامي بكل مدارسه ومذاهبه ، ملئ بصور احتقار المختلف الآخر وتوهينه ، وإن إحياء هذا التراث لا يقود إلا إلى المزيد من الاحتقان المذهبي بين المسلمين ، وإعادة إحياء خلافات التاريخ وتبايناته .. 

وفي مقابل هذا التراث المليء بصور التوهين للمختلف ، هناك صور قليلة تعكس حالة الوفاق والتعاون والتعاضد والتضامن بين المسلمين .. والأكيد إننا كمسلمين معاصرين ، لا نتحمل عبء التاريخ وصعوباته ومعاركه ، فنحن لا نستطيع أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء ، لهذا فإن المطلوب هو صناعة وعي إسلامي معاصر لدى جميع الأطراف الإسلامية تجاه أحداث التاريخ ومعاركه .. 

ويتقوم هذا الوعي الإسلامي بقيم الوعي الحضاري تجاه أحداث التاريخ ، وضرورة الاستفادة من دروسه وعبره ، وصيانة حقوق المختلف المادية والمعنوية ، والاحترام المتبادل والعميق لثوابت ومقدسات كل الأطراف .. فالاختلاف والتباين في وجهات النظر تجاه أحداث التاريخ ورجاله ، لا يشرع لأي طرف من الأطراف التعدي على مقدسات الآخرين .. فالاختلاف شيء والتعدي على مقدسات الآخرين شيء  آخر .. لهذا فإن وعينا الإسلامي ينبغي أن يقودنا جميعا إلى رفض كل أشكال الإساءة إلى ثوابت ومقدسات الآخرين .. 

2-لا يمكن أن نؤسس لفقه الوفاق والمشترك بين المسلمين ، بدون تطوير الفقه المقارن بين المسلمين .. 

بحيث يتشكل طالب العلوم الدينية علميا ومعرفيا وفي كل المؤسسات العلمية والحوزات الدينية على العلم بمباني وأدلة كل المدارس الفقهية في كل الموضوعات والأبحاث العلمية .. بحيث يتعامل الجميع مع تراث الجميع ومنجزاتهم العلمية ومبانيهم الفقهية ، بوصفها جزء أصيل من التراث العلمي لجميع المسلمين .. 

ولا يمكن التعامل مع هذا التراث العلمي على هذا الأساس ، إلا بالانفتاح عليه والتواصل معه ودراسته منهجيا .. 

3-إن بناء فقه الوفاق والمشترك بين المسلمين ، يتطلب أن تتراكم كل الجهود العلمية والاجتماعية والثقافية .. لأنه لا يمكن أن يتحقق دفعة واحدة ، وإنما هو بحاجة إلى مدى زمني تتراكم فيه كل الجهود والطاقات .. 

فتعالوا جميعا من مختلف مواقعنا ، أن نقرر مع أنفسنا وضمائرنا أن لا نساهم بأية خطوة تعمق الشقاق والنزاع بين المسلمين ، ونعمل من عناصر القوة التي نمتلكها بكل طاقتنا وجهودنا لإرساء حقائق الوفاق والمشترك بين المسلمين في فضائنا الاجتماعي والثقافي والعلمي والإعلامي ..   

الخاتمة:

وبعد كل هذا نصل إلى نتيجة أساسية وهي أن التلاقي والوفاق الفعال بين مختلف التعبيرات والمكونات هو السبيل الحقيقي لنيل القوة النوعية لأي مجتمع.

وبدون هذا التلاقي والوفاق، ستعم في أي مجتمع نزعات الفرقة والتلاشي. وهذه النزعات هي التي تضيع كل مكاسب المجتمع والأمة، وسيحول هذا المجتمع من حالة الضعف إلى حالة الأضعف الذي يجعل المجتمع غير قادر على مواجهة كل الصعوبات والتحديات. فالتنوع والتعدد لا يشرع لأي طرف تجاوز مقتضيات الوحدة الداخلية.

فمن حقنا جميعا أن نختلف في افكارنا وميولاتنا، ولكن من واجبنا جميعا أن نلتقي وننمي في واقعنا كل موجبات الوحدة والصلابة الداخلية.

لذلك كله فإننا في الوقت الذي نرحب بتنوعنا الداخلي وتعدديتنا الفكرية والاجتماعية في ذات الوقت نرفض كل اشكال النزاعات الداخلية. فنحن مع الوحدة المبنية على احترام تنوعنا وتعدديتنا وضد كل اشكال الجفاء والتباعد بين مكونات المجتمع والأمة. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى