أقلام

بين يدي الإمام الرضا (ع) ١

الصدقة رصيد استثماري

السيد فاضل آل درويش

ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): خير مال المرء ذخائر الصدقة)( تنبيه الخواطر ج ٢ ص ١٨٢ ).
هذه الحكمة الرضوية النيرة مبنية على النظرية الإسلامية الرابطة بين الحياة الدنيا والحياة الاخروية، والتي تؤكد على حقيقة أن الدنيا متسع من الوقت وعمر مقدر للإنسان يعمل فيه بحسب ما يرتأيه عقله الرشيد؛ لتكون تلك الأعمال حاضرة في صحيفة عمله يوم الآخرة ليحاسب على ما قدمت يداه، وأما من تزينت الدنيا في عينيه وعشق متاعها وافتتن بزخارفها فارتضى العيش فيها بنظرة مادية بحتة، فاستجاب لغرائزه وشهواته وأهوائه المتفلتة فلم يبال بما يرتكب من المحرمات والمحظورات الإلهية، فمثل هذا الشخص المادي بالتأكيد لن يفهم مرام ومقصد الإمام الرضا (ع) الداعي إلى العمل الأخروي ومراكمة الأعمال الصالحة ومنها الصدقات.

الإمام الرضا (ع) يشير أولا إلى سلم الأولويات والأهمية في الجانب المالي الذي يتحصل عليه المرء من مصدره الحلال، هو العمل على تكوين رصيد أخروي يذخره لذلك اليوم ويجعله ذلك النجم المتلأليء في صحيفة أعماله، وهذا لا يعني بالطبع التزاحم مع توفير مستلزمات الحياة الكريمة لأسرته الواجبة عليه، وإنما الحديث حول الفاضل من ذلك المال بعد صرف الواجب عليه، بل هو الالتفات لمصيره الأخروي فيذخر لذلك اليوم ما يعينه على أهواله وشداته، فالمغفرة والصفح الإلهي يستنزله المرء بالرحمة والشفقة بالضعفاء ماديًا والشعور بمعاناتهم، فيواسيهم بشيء من ماله بما يخفف عنهم وطأة الفقر والحاجة.

وإنفاق المال محطة اختبار إلهي تبرز حقيقة تعلق الإنسان بالمال وتملكه لشغاف قلبه أم أنه متحرر من قيوده وجعله وسيلة لتلبية احتياجاته الدنيوية والأخروية، فقوة الإيمان في الجانب المالي تمتحن عند الإنفاق على الفقير واليتيم، وأما من لم يتخلص من أنانيته وشح نفسه فهو يشعر بالألم الشديد عندما يفتح أمامه مجال ومسير أخروي وهو الصدقة، فالمال قد يكون نقمة على المرء إذا ابتلي بالبخل وقبض اليد عن صنع المعروف والبذل في سبيل الله تعالى، وقد يكون نعمة إلهية إذا وفق المرء إلى جعله وسيلة لتحقيق مستلزماته المالية الخاصة به وبأسرته، ومن ثم يجعل جزءًا منه ذخيرة أخروية يبلسم بها آلام المحتاجين، فيكون عضوًا اجتماعيًا فاعلًا في مساندة المحتاجين.
وللصدقة صورة ظاهرية ترتكز في أذهان الكثير وهي تخالف الحقيقة لها، فالتصور هو أن المنفق يبذل ماله لمساعدة الفقير وبذلك يتفضل و يتجمل عليه، إلا أن الصورة الحقيقية هي أن هذا الفقير كان سبيلًا وموردًا لفعل الخير بالنسبة لهذا المتصدق، ولذا ورد في سيرة الإمام السجاد (ع) أنه يبتهج لمقدم الفقير ويبدو السرور عليه ويخاطبه بالترحيب، وهذا يؤكد على عظمة التعاليم الإسلامية الشاملة لكل أبعاد حياة الإنسان الفردية والمجتمعية، فأولت مسألة التكافل الاجتماعي والاهتمام بتخفيف وطأة الحاجة اهتماما كبيرًا، مما يخلق روح المودة بين أفراد المجتمع بهد استشعار المحتاج لمواساة القادرين له.

والمبادرة إلى دفع الصدقة جزء من التربية التي يتلقاها الطفل في محيطه الأسري، وذلك من خلال تعويده على دفع شيء من مصروفه، والأفضل أن تكون هناك حصالة خاصة بوضع الصدقة في البيت، فهذا يعزز سلوك البذل والإنفاق عنده كما ينمي مشاعره الوجدانية النابضة بالمواساة للمحتاجين والإحساس بآلامهم، فإن حب المال وكنزه وجمعه غريزة قوية تحتاج لجعل نفسه باذلة وسخية إلى برنامج تربوي وإرادة وهمة، وما يعزز هذا السلوك عنده هو شعوره بأنه لا يفقد شيئًا بل الصدقة مجرد تحويل ذلك المبلغ إلى رصيد استثماري تزداد أرباحه ولكن في عالم الآخرة الأبدي لا عالم الدنيا الزائل، كما أنه يحقق وجوده ويعزز مكانته من خلال شعوره بالسعادة إذا رسم البسمة على وجه الفقراء ورفع البؤس عنهم.

فآه لذلك المسكين المكبل بسلاسل حب المال وجمعه مع علمه الجزمي أنه مفارقه يومًا ما وسيخلفه لغيره، وستلحقه الندامة والحسرة في يوم القيامة وقد أقبل خالي اليدين من مال مبذول لفقير ومحتاج، بينما أولئك المتصدقون ينعمون بظلال الإنفاق ويرجون رحمة الغفور الرحيم، ادخروا حبة من سنابل الخير والإنفاق فأنبتت لهم الأضعاف المضاعفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى