بشائر المجتمع

الفائزيات.. ذرية تخلد ملا علي

رباب حسين النمر: الأحساء

يجلس على آلاف المنابر الحسينية، ويلقي على ألسنة الخطباء أهازيج وأشعار حسينية تصور تفاصيل مقاتل كربلاء، تقف مع الحسين عليه السلام على مصارع الشباب، وتنقل حكايات كربلاء بأسلوب القوافي التي تنخلع لها القلوب، وتجري على وقعها أنهار الدموع.

أبكى ملا علي بن فايز أجيالًا وأجيالًا من محبي أبي عبد الله الحسين على مر قرن ونصف من الزمان، وترك بصمته المميزة في الوجدان الشعبي وهو نائم في قرية سند نومته الأبدية، يستمطر قراءة الفاتحة والترحم على روحه عند كل من يعبر قرب قبره، أو يمسح الغبار العالق بالقبر، أو يدفق بعض الماء لترطيبه، أو يغرس غصن ريحان لينتعش القبر وصاحبه بالاخضرار.

تحفظ له الذاكرة الأحسائية خاصة والخليجية عامة أبياتا خالدة بخلود مصرع الحسين وترتيلها كل عام مقترنة بذكرى عاشوراء الحسين:
ومما حفظت له الأجيال:

عـاشور هَـلّ اِهـلالَه
عاشور هَلّ اِهلالَه..
.هـلّت ادمـوع مـحمّد
مـن شاف هلّ اِهلالَه

إيـقولون هـلّ اِمـحرّم واقبل لنا باحزانه…
حـزني عـلى سـلطان
شال اُو مشى ابشباله
قـاصد أراضـي الغربة واَوحش علينا اَوطانه…
وابـقيت أحـن اِبداري
اُو عاشور هلّ اِهلاله

قـالوا إلـيّه اتـصبّروا
إنـته بـعد تسليهم…
قـلهم فـلا اتـصبّر وبـانصب مـآتم ليهم
شـبّان طـلعوا عـنّي هـيهات أنـا أسليهم.
.واعـظم عـليّه الليلة عاشور هلّ اِهلاله

قـالوا إلـيّه تـسلا
إمـن هـالبكا والـلوعه..
واطلب عسى الله ايعوده واطلب من الله رجوعه
قـلهم أبـد والـينا
هـيهات لـينا اِرجوعه..
.هـذي المدارس موحشة
اُو عاشور هلّ اِهلاله

يـا هـي بـقلبي امصيبة اُوياهي ابقلبي حسره..
اتـمنّيت أنـا ويّـاهم يوم الحرب والنّصره
يـاما خـليت اِسـروجها
يوم الجمل بالبصره..
لـكنْ قـضى الله عاقني
اُو عاشور هلّ اِهلاله

قـالوا تـسلا قـلهم هـيهات وين السلوه…
أسـلي وخـويه منطرد عن دار جدّه قوّه
مادري اشصابه امن العدى والدهر بيه اشسوى..
شـال ابـحريمه واِخوته
حتّى رضيعه شاله
يـا لـيت اَنـا ويّاهم لازم ظهر ميموني..
مـا كـاتب الله اُورايد أصير اَنا من اِرجاله

يـا لـيتني فـي الوقعة يوم الحرب ويّاهم..
لَـفعل فعايل ما جرت
وافني ابسيفي اَعداهم
بالحرب أواسى اِخواني واتصبر روحي افداهم…
لـو كـنت انا ويّاهم
كنت العلم شيّاله

وانـا الذي متهولني
اِصفوف العدى اُوفرسانها.
اُو نـفسي أبد ما تكترث بابطالها اُو شجعانها
واَنـا لـهب بالغارة
لو مَن ورث نيرانها.
ومـنّي الـفوارس تجفل
في ملتقى الخيّاله..

وُلِد الملا على بن فايز الحجّي الأحسائي بحيّ الرفعة الشمالية بمدينة الهفوف، بمنتصف القرن التاسع عشر.
هاجر من الأحساء إلى البحرين منذ صباه لأسباب اقتصادية، وعاش وشب هناك وامتهن الفلاحة فيها، وقضى معظم أعوام حياته بها حتى وافاه الأجل عام 1904م (1322هـ) بالمرض الأسود ودفن في منطقة سند.

ويتسم ابن فايز بشخصية ذات أبعاد إبداعية متعددة الجوانب، ففد حباه الله صوتًا جميلًا استثمره في النشاط المنبري ووظفه بفن الإلقاء والبراعة في جذب المستمع، وكان بارعًا في نظم القصائد، فاستمدها منه كبار الخطباء ووظفوها على منابرهم وطعّموا بها خطابهم الحسيني حتى باتوا يكررون: “رحمك الله يا ابن فايز” اعترافًا بجميله وبصمته التي تركها على الأدب الكربلائي.

وكانت لابن فايز قصة قادته إلى استغلال خامة صوته وموهبته في رثاء الإمام الحسين، حيث جذب صوته الجميل الضباط الأتراك في السرية العسكرية وهو سائر في أزقة الكوت ينشد على رسله، فأعجبوا بصوته، وطلبوا منه التردد عليهم لينشد لهم، ثم صدر أمر من أمير الأتراك لنقل سرية الضباط تلك إلى القطيف، فطلبوا من ابن فايز مرافقهم إلى هناك، فاعتذر بسبب رعايته لأخته، فقالوا له: سوف نعطيك كسوة ونفقة مستمرة لها، فعرض ذلك عليها فوافقته، وهكذا انتقل إلى القطيف، وظل مستمرًا على إحياء مجالسهم بالأناشيد، فصادف أن سمع إنشاده حاكم القطيف آنذاك منصور بن جمعة، فأعجب بجمال صوته وسأل عنه، فقالوا إنه أحسائي، فطلبه من الضباط، ولما استجاب له اقترح عليه استثمار صوته الجميل في رثاء الإمام الحسين (ع)، فقال له ابن فايز: أنا لم أتعلم القراءة الحسينية! فسأله: هل الأناشيد التي تنشدها من تأليفك أو تحفظها؟ فقال: أنا لا أقرأ ولا أكتب، ولكني أتقن أن أنشد بعض الأبيات وأحفظ البعض الآخر.

وكان لمنصور بن جمعة مجلس يحيي فيه القراءة الحسينية بمنزله، وكان الخطيب الحسيني الذي يقرأ في مجلسه تلك الفترة عراقيٍا، فقال منصور بن جمعة لابن فايز : هل تريد أن تقرأ مقدمًا للخطيب الحسيني؟ فرفض ذلك بحجة أنه لا يعرف القراءة الحسينية، فلما صعد الخطيب العراقي المنبر، انشغل ابن فايز بتأليف أبيات في السيدة فاطمة الزهراء (ع)، ولما انتهى الخطيب من القراءة طلب منصور بن جمعة من ابن فايز القراءة الحسينية فاستجاب، وصعد المنبر الحسيني للمرة الأولى ليرثي فاطمة الزهراء (ع)، وهو يقول على لسانه ومن تأليفه:
نوحي على الأولاد يا زهرة الحزينة.
نوح الحمام وحشمي أهل المدينة.

فتفاعل الجمهور مع صوته الجميل، وعلى خلفية هذا الحدث طلب منصور بن جمعة من الضباط أن يبقى الملا علي بن فايز في ضيافته، وقد لقبه باسم ملا علي.

ومن ذلك الوقت اشتهر في القطيف، ووصلت شهرته إلى البحرين التي طلبه أهلها من منصور بن جمعة للقراءة الحسينية، وهكذا سكن البحرين وتعلم فيها الخطابة ونبغ نبوغًا عظيمًا لا يكاد يشاركه غيره في الخطابة والشعر العامي.

وتفاعل الجمهور مع ابن فايز وأحبوه، وبلغ من تفاعلهم أن بعضهم بمجرد رؤيته راكبًا على دابته من مسافة بعيدة كان يبكي ويتفاعل معه.

وكان ابن فايز يرتجل شعره ارتجالًا على البديهة في وقت إنشاده، أسس ابن فايز مدرسة شعرية تميز بها وتفرد تعرف بـ «الفائزيات»، وتمتاز بصدق الكلمات، ورقة العبارات، وتصوير ينقل المجمهور ليعيش بعض جوانب واقعة كربلاء، وهو ما لا يتاح إلا لشاعرٍ حسّاس، عاش واندك في هذا الحدث التاريخي المفجع حتى ذاب فيه ذوبانً.

ومن اللافت للانتباه أن اللغة التي استخدمها ابن فايز في أشعاره هي اللهجة العامية الدارجة (البحرانية)، دون تطعيمها بلهجة أخرى، وقد كان الخطباء آنذاك يفضلون اللهجة العراقية لسبقها في الرثاء الحسيني. ولهذا يًعد مؤسس مدرسة النعي الحسيني البحراني المعاصر.

وقد أُشير إلى الحواريات في شعره، وقيل: لو أتيحت له فرصة أدائها بالعربية الفصحى لضاهى بها كبار شعراء الحسين كالشريف الرضي والسيد حيدر الحلي.

أحيا التراث الشعري الفائزي كثير من رواديد المنطقة ووظفوه في دواوينهم المسموعة، ومنهم الرادود صالح المؤمن، ومحمد المكي، والمشهور أن قصائده لم تدوّن في حياته، وإنّما جُمعت بعد وفاته من الخطباء ومما حفظه كبار السن، ونُشرت في ديوان «فوز الفائز».

واتصف ابن فايز بالإيمان والإخلاص، والبذل في سبيل الله والكرم، وبلغ من كرمه أنه إذا حصل على “ربيتين” يتصدق بربية، والثانية ينفقها على زوجته.

ونظرًا لعدم احتفاظه بالأموال لم يستطع أن يجمع أشعاره في ديوان، ولكنها جمعت بعد وفاته في ديوان (فوز الفائز) كما أشرنا.

كان ابن فاير يعاود زيارة الأحساء بين حين وآخر لزيارة أخته وللقراءة الحسينية. حيث تزوج زوجة من البحرين من قرية سند، ولكنه لم يخلف ذرية.

ومن شعره المحفوظ في الذاكرة الشعبية مقطوعة عن نزول الإمام الحسين في كربلاء بعياله ونسائه وصحبه، فيقول:

حطوا على هالوادي
حطوا على هالوادي
يا عزوتي يا رجالي
حطوا علي هالوادي

ياقوم انا بسألكم
وانا خبير باسماها
هذي أراضي جدي
كر البلا سماها
يشرب ثراها دمي
وتبخل علينا بماها
راضي أنا بهالتربة
واحطوا على هالوادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى