أقلام

في رحاب دعاء الإمام الحسين (ع) صبيحة عاشوراء (١١)

السيد فاضل آل درويش

الدعاء وتربية النفس:
من تلك المضامين العالية لمدرسة الدعاء هو مبدأ تحمل المسؤولية على مستوى العلاقة بالله تعالى والفرائض الإلهية وعلى مستوى علاقاته وتعامله مع الآخرين، فالمفردات والمفاهيم العقائدية التوحيدية التي يسوقها الإمام الحسين (ع) في دعائه تثبت معالم اليقين والطمأنينة بالعناية والتدبير الإلهي وتصريف مجريات الأمور وفق حكمته الخافية علينا في كثير من الأحيان، وهذه الثقة لا تعني بالطبع ركونًا وخلودًا للتكاسل والخمول والتعاجز عن العمل، بل هي دعوة إلى الانطلاق في ميدان العمل المثابر والجاد بكل حزم وتخطيط مطمئنًا إلى أن الأمور مهما كان اتجاهها فيما يوافق رغباته أو يخالفها تسير في طريق الخير والصلاح، وعليه في حالة الابتلاء أن يحول محطات الاختبار والظروف الصعبة إلى فرص يقتنصها في تقييم قدراته وإمكاناته واستكشاف مواضع التقصير والأخطاء والضعف عنده ليحسن من حاله ويسد ثغرات النقص متحملا المتاعب.

وكذلك مدرسة الدعاء تستكشف لنا حالنا و تدعونا إلى المحاسبة المستمرة لاستكشاف مواطن الضعف في أداء حق العبادة وشكر المنعم، من خلال التذكير بأن أوراق العمر تتساقط الواحدة تلو الأخرى حتى ينقضي الأجل، وعليه الاستعداد لليوم الآخر من خلال الوقوف بين يديه وترطيب اللسان والقلب بذكره تعالى ليترقى في درجات القرب الإلهي، فمتى ما حصل على لذة المناجاة والأنس بذكر الله تعالى صغرت الدنيا بكل زخارفها و متاعها في عينه ومشاعره، فإن أهم نقاط الضعف البشري أن يتملك الفرد حب المال والجاه فيسخر كل طاقته وجهده ووقته لتحصيل زينتها ولذاتها، فيغفل عن ذكر الله تعالى وطاعته ولا يبدي استعدادًا لقضاء وقت قصير في محراب الصلاة والدعاء، بينما تأخذه مشاغل الدنيا بعيدا لتأخذ البعد الأكبر من اهتمامه وعقله، والقرآن الكريم في ذكره للأقوام السابقة نجد التركيز على العامل المؤدي إلى تكذيبهم بآيات الله تعالى وإصرارهم على انحرافهم العقائدي والسلوكي، هو التعلق بمظاهر ومتاع الدنيا وحياة التفلت واتباع الشهوات والأهواء بعيدًا عن الاحتكام للعقول الرشيدة.

الدعاء منهج أخلاقي يحمل الدعوة إلى التحلي بالخصال الحميدة كالصدق وطهارة النفس والتواضع والصبر، والتخلي عن الرذائل كالخيانة والنفاق والأنانية والحسد وضعف الإرادة أمام الشهوات، والدعاء يطهر النفس ويهذبها ويدعوها إلى التزام عملي بتلك القيم والسلوكيات، والبصيرة بما يحدق بالإنسان من أعداء يتربصون به دوائر السوء ( الشيطان – النفس الأمارة بالسوء – الشهوات والأهواء)، فيحتمي ويتقي من شرور وتبعات المخالفات ويكبح جماح نفسه وينظر في عواقب الأمور وخطاه قبل أن يتعجل ويتهور ويندم بعد ذلك في وقت لا ينفعه تحسره.

وهذا التدين والتمسك بالقيم والذي نراه جليًا في أصحاب الإمام الحسين (ع) وأتباعه – بصدق – عبر الأجيال هو من ثمار ونتائج مدرسة الدعاء، واكتساب الفضائل و تجنب الرذائل (تهذيب النفس) لن يأتي دفعة واحدة، بل هو منهج أخلاقي يتقدم فيه السالك خطوة بعد خطوة ويترقى درجة بعد درجة حتى يصل إلى مستويات عالية من التكامل وطهارة النفس، يتحلى بصوت قوي يمانع من الاقتراب من دائرة الخطايا (صوت الضمير اليقظ) ويقف حائلًا أمام العدوان بأي شكل من أشكاله، فسيرة أصحاب الإمام الحسين (ع) تعد مدرسة لا ينبغي تجاهلها والتأمل في سيرة كل واحد منهم، فنحن حينئذ نربط أبناءنا بطريق قويم يحقق لهم أعلى درجات الفضيلة والاستقامة وروح العطاء والخلق الرفيع في التعامل.

وأما غياب مدرسة الدعاء ومنهج التزكية فستكون نتائجه وهيمة ويكتشف صاحب تلك النفس مجموعة من الآفات والرذائل قد تشبث بها وسكنت جوانحه، وحينئذ يغدو كالسباع المفترسة التي تلهث بشكل مستمر للبحث عن فريستها مدفوعة بغريزة تدفعها بقوة نحو ذلك، ولهذا نجد في الخطاب الحسيني ما يعبر عن أعدائه بالذئاب البشرية التي تخلت عن التعقل والرشد في طريقة تفكيرهم، وتمسكوا بشهواتهم وأهوائهم التي دفعتهم لارتكاب أفظع الجرائم بحق السبط الشهيد وأنصاره وأهل بيته، فقال (ع): (وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء)(الملهوف على قتلى الطفوف، ص ١٢٦).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى