أقلام

وسراجا منيرًا (٢) 

السيد فاضل آل درويش

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ

وأنى للأقلام والمداد أن تسطر من خلقه الرفيع ما أضاء سجل الإنسانية النبيلة، وما لا يسع الوقوف عنده من قبل أصحاب العقول المنصفة إلا بعين الإكبار والإعظام، لما أبداه من تعامل ينبيء عن نفس طاهرة ونقية بلغت أعلى درجات الكمال والرقي، وقد صرح القرآن الكريم بأن تلك الأخلاق الرفيعة والتعامل الجميل مع الناس هو سر الجاذبية للناس نحو الدين الإسلامي وقيمه، فقد كان (ص) خلقه وتصرفاته تجسيدا لما احتواه الكتاب المنزل من قيم ومفاهيم أخلاقية، وقد بذل جهدًا كبيرًا في تربية أصحابه والعمل على غرس تلك الأخلاقيات في سلوكياتهم، فعملية التغيير التي قادها الرسول الأكرم (ص) لم تقتصر على جانب تكسير الأصنام والأوثان التي تعبد من دون الواحد القهار، بل شملت أولا طريقة التفكير وتراكم الأفكار والمعتقدات في الأذهان التي كانت لا تستند إلى دليل يؤيدها، ومن ثم انطلق بهم إلى تلك السلوكيات القبيحة الصادرة منهم ومعالجتها وتبيان كيفية التخلص منها وعدم الوقوع في حفرها مستقبلًا، كما وجه الرسول الأكرم (ص) إلى مبدأ التصالح مع الذات والتسامح مع الآخرين ليكون ذلك قبس النور في ميادين الحياة، فالتصالح مع الذات يجنبها اتجاهين خاطئين قد ينحو لأحدهما من ارتكب خطيئة وجرمًا في حق نفسه قبل كل أحد، فإما أن يتجه بعضهم إلى جلد الذات وتعذيب نفسه لوقوعها في الحرام في لحظة غفلة وطيش مما يؤدي إلى اضطراب نفسي يتشكل على نحو الكآبة، وإما أن يعرض الآخر صفحًا عن خطيئته وكأنه لم يفعل شيئًا مما يسود وجهه وصحيفة عمله وهو ما يسميه علماء الأخلاق بتحقير الذنوب واستصغارها، حيث يستسهل فعل المعصية مرة بعد مرة ويستمر على ذلك متجرئا على حرم الله تعالى دون أن يكون لديه الرادع والوازع الذي يكفه ويمنعه من مسلسل الأخطاء الذي وقع فيه، فباب التوبة النصوح يزرع في النفس الأمل بالله تعالى المتجدد ويبعد روح اليأس من رحمة الله تعالى، هذا المنهج النبوي الأخلاقي يثبت في الإنسان الثقة بنفسه والتعامل بواقعية مع مغريات الدنيا وزينتها مع التعامل بحذر ويقظة من حفر مكرها.

وأما بث روح التسامح والصفح عن الإساءة فهو نهج نبوي يحافظ على النفس أولًا من تراكم المشاعر السلبية والأحقاد على الآخرين والتفكير الخاطيء برد الإساءة بأمثالها، كما أنه يحافظ على العلاقات بين أفراد المجتمع من الانهيار والضعف والقطيعة، وهذا ما ينافي الغرض والغاية القرآنية الاجتماعية المهمة والتي تبني العلاقات على أساس التفاهم والثقة والتعاون ومشاعر الود، وإذا ما دخل الناس في دهاليز المشاحنات والخصومات بسبب المواقف المسيئة أو التهور في لحظات الانفعال الشديد، فلن يوقف تسلسل الضربة وردها إلا روح التسامح والإعراض عن رد الإساءة و كظم الغيظ، فضبط النفس أمام استفزاز الآخرين لا يعد ضعفًا كما يتصور البعض وهمًا، بل هو عين القوة والتكامل النفسي والانفعالي حيث يحافظ المرء على شخصيته من الانحدار نحو التلفظ بالكلمات البذيئة والتصرف المتهور غير محسوب العواقب، وهذا ما نجده في سيرة الرسول الأكرم (ص) في مواقف عديدة لا يقابل من أساء له بمثلها، وهو الذي يقول (ص): ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)، فقد مارست قريش كل ألوان الأذى النفسي من خلال تلك الاتهامات الباطلة كاتهامه بالجنون والسحر وغيرها – حاشاه – ، بغية إحداث فجوة بينه (ص) وبين قبول الناس و قناعتهم بما يدعو له من دعوة التوحيد وعالم الفضيلة الأخلاقية، إذ حينها ينفر الناس منه لأنهم لا يتقبلون شخصيته ولا يضعونها موضع الحقيقة والمقبولية، كما أوذي (ص) الأذى الجسدي فكان تلقى عليه وهو ساجد في البيت الحرام فضلات الجزور، ومع كل هذا الأذى الذي مورس بحقه (ص) فانظر إلى ساعة النصر والظفر الذي حدث يوم فتح مكة المكرمة ودحر ذيول العدوان لقريش، وقد خيم عليهم الخوف والذعر مما سيقابلهم به (ص) من عقوبة مغلظة بعد أن آذوه بصنوف العدوان والتنكيل والبطش، فما كان منه (ص) إلا إعلان الصفح عنهم في يوم فتح مكة ووأد الكراهيات في قلوبهم من خلال تجاوزه عن إساءتهم، فقال (ص) لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى