أقلام

جاسم المشرَّف ذلك العنوان

راضي صالح السيد

الهالة من مفردات الصوفية، وهي حقل من الطاقة المشع، والتي تتأثر بالكثير من التفاعلات، وتؤثر في محيطها سلباً أو إيجاباً. جاسم المشرَّف كان من هؤلاء الذين لهم هالة إيجابية، شدتني إليه قبل أن أعرف شخصه، تماماً كما تشدك بعض عناوين الكتب، أو تشدك بعض المدن قبل أن تراها، أو تتفاعل معها، وتظل تتمنى أن تكشف بعض أسرارها.

لقد كان لقائي معه صدفة في القطار المتجه للأحساء، وكان بجانبي، وبدأنا نقطع الوقت بتجاذب أطراف الحديث، كانت نبرات صوته هادئة، مليئة بالدفء، والحنان، عرَّفني باسمه أنا جاسم المشرَّف، من قرية الدالوة، مدرس لغة عربية في ثانوية الطفيل بن عمرو بسيهات، لقد أصابتني رعشة خفيفة، أثارت فضولي، فهذا الكتاب الذي أبحث عنه، وهذه المدينة التي اشتقت إلى زيارتها، بدأت أصغي إليه وقد صارحته، ما أحلى الصدف!

أأنت جاسم؟!

كم تمنيت أن أراك منذ زمن، فهالتك المشحونة بالطاقة الإيجابية وتفاعلاتها تغطي فضاءات واسعة، وكأنها شجرة الياسمين الهندية في الربيع، تملأ الأجواء أريجاً.

لقد كانت إدارتك لموكب تشييع شهداء الدالوة أحد العناوين البارزة التي زادتك تألقاً، بدا يُلملم ذاكرته عن تلك الفجعة، وارتسمت على وجه سحابة من الحزن المدفون في قلبه، وبدا يروي لي مشهد ذلك الطفل وهو ينشد قصيدته كيف اختطفه الموت على حين غفلة. بدا يتحسر على الانسان الذي أراده الله خليفة له في أرضه، كيف يتغلغل فيها الشيطان فيسفك الدماء في الشهر الحرام باسم الدين.

جاسم ابن القرية الصغيرة الوادعة (الدالوة) المحاطة بجبل القارة أحد معالم الأحساء، ذات النخيل الباسقات والتي تعطر أزقتها وبيوتها المتلاصقة عطر الرياحين، وكأن تلك القرية أسرة واحدة، وعندما انتقل إلى ذلك الفضاء الأوسع (الدمام) حيث البحر الضجيج؛ ليكمل دراسته في معهد الإدارة، لم ينسه ضجيج المدينة، ولا جمال البحر، واتساع الأفق قريته الصغيرة، فما زال وفيا لها، فهو مؤسس ورئيس منتداها الثقافي، يرعى أنشطة أبناء القرية، ويزرع الورد في الممرات والأزقة وكان حلمه أن تكون الدالوة تلك الوردة المحمدية الحمراء التي تبث أريجها في كل الأمكنة والأزمنة.

وجاسم ذلك الشاعر المرهف الحس، والذي أيسر ما تلاحظ في قاموس شعره نبض روحه، وعقله، وقلبه، نعم إنك ترى في ألفاظ قاموسه عقل جاسم، وروح جاسم، وقلب جاسم، بجانب عذوبة الألفاظ، وصدق التعبير. يقول في قصيدته (والنجم إذا هوى)

‏يصف كثافة الجمال الذي يحتشد بين حناياه، وهو في زيارة الرسول الأكرم الله صلى الله عليه وآله، حيث يطوع الحرف؛ ليسكب روحه فيه فيكون اللفظ لوحة فنية تحسها بكل مشاعرك:

تماديتُ عِشقاً والهوى يعضدُ الهوى

فلا تعذِلوا العشاقَ للمرءِ ما نوى

 

حرامٌ على نبضي وأنفاسِ خاطري

سوى مَن له كُلُّ الصبابةِ والجوى

 

دروبُ الهوى فينا يناجيهِ شوقُها

وما ضلَّ فينا الحُبُّ يوماً وما غَوى

 

وجاسم عندما يعبر عن حبه، وولائه في قصيدة: (ليلة القدر) في ديوانه: (في الأسماء) تراه يستخدم مفردات من بيئته، فالورد، والريحان، والزهر، وذرات التراب، تلك المفردات التي وظفها لتعبر عما في قلبه المرهف بصياغة تستوعب روح الولاء، وتشع منها عقيدته الذي لا يحشى البوح بها .

تجاسرتُ واشتاطَ المدى مِن جسارتي

وفرَّطتُ وانزاحَ المدارُ عن العُذرِ

وضعتُ كذراتِ الترابِ تلوكُني

رياحُ الأسى والهمِّ والخوفِ والذُّعرِ

أتيتـكِ معـدومَ المكـارمِ حـائِرَاً

وقدْ ضاعَ مني العمرُ في المسلكِ الوعرِ

إذا ما طلبتي الخيرَ مني فمفلسٌ

ظلـومٌ وتـلكَ النفـسُ ترفـلُّ بالشـرِ

ولكنني يا بنتَ أحمدَ مُدنَفٌ

شغوفٌ هزيلُ الجسمِ مِن عشقيَ البكرِ

يقينٌ بلا شكٍ وأنفاسُ عاشـقٍ

كذراتِ هذا الكونِ في خاطري تسري

خديني إلى تلك السلال لأزدهي

كما الوردِ والريحانِ في زمرةِ الزهر

لعلَّ نسيماً من شذذاها يُحيلني

شبيهاً لها في الشكل أو ظاهرَ الأمرِ

فقالت: سلاماً للذي جاءَ سالماً

مِنَ الغلِّ والأحقادِ وليحضَ بالبـشر

تفضلْ إلى جناتِ عـدنٍ مكرماً

فلا تخشَ مِن هَمِّ ولا تَخشَ مِن وزرِ

أحبابنا إنَّا على العَهدِ لم نَزَلْ

إذا مـا أخــذتُـم بالـولاءِ وبـالذكــرِ

ما يميز شعره ليس قاموسه الشعري الذي يمتاز بمعانيه المباشرة وسلاسته، ومرونته، بل قدرة جاسم على تطويع ألفاظه الشعرية في تحويل الصورة الذهنية المجردة إلى لوحة فنية واقعية، تلتمسها بمشاعرك، فتعيش فيها وتعيش فيك.

وجاسم لا يبخل على مجتمعه بحبه، فهو يسخر وقته؛ ليبني وليزرع ألف نخلة، فهو واحد من مؤسسي جمعية ابن المقرب، والعديد من الأنشطة، وتلك شهود على عظمة روح جاسم.

وليعذرني جاسم عندما اكتب عنه فأنا أدرك باني لم اتناول شخصية بكل ابعادها الانسانية.

فأنا كمن يحاول رسم صورة جميله وهو ليس بفنان. فهنيئا لك يا جاسم بهذا العطاء، وهنيئا لك بهذه الأشجار التي زرعتها في الطرقات فأصبحت ظلا ظليلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى