أقلام

تبدل الأحوال من مشاهد يوم القيامة

السيد فاضل آل درويش

قال تعالى:{ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ }{الواقعة الآية ٣}.

المكانات والمقامات الشأنية في الدنيا لها معاييرها وتقييمتها وفق المعيار المادي والمالي والوجاهة الاجتماعية، وهي لا تعبر بدقة عن المكنون الذاتي والكمالي للمرء بل قد يتلبس بالوجاهة من لا يمتلك المؤهلات، وقد يملك المال فيكون له هالة خاصة تحيط به (كاريزما) فيأمر و يوجه بتنفيذ متطلباته، ولكن فيما بعد الدنيا هل تبقى تلك الامتيازات والخصوصيات بحذافيرها أم يطرأ عليها تغيرات تبدل المشهد في يوم القيامة ؟!

الآية الكريمة على اختصار كلماتها ولكنها تحمل معالم مشهد مهم من مشاهد يوم الحساب الذي يظهر معه التعري للصور الزائفة فتبان الحقائق بدون أي رتوش، وهذا لا يعني توجيه الذم والقدح لتملك المال أو الوجاهة، بل بالعكس فإنهما في يد المؤمن تعد وسائل لمساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم وتخفيف همومهم، فيشارك صاحب المال الضعفاء بما ينفقه من أمواله ليبلسم آلام الفقراء، ويوظف مكانته ليكون جسرًا في نيل الآخرين حقوقهم والوصول إلى تطلعاتهم إذا واجهتهم بعض العراقيل والعقبات، فمثل هؤلاء ممن يتفاعلون وجدانيًا مع أبناء مجتمعهم ينالون الثواب الكبير على ذلك، فصنع المعروف وقضاء حوائج الغير من أعظم القربات إلى الله تعالى ونيل مغفرته ورضوانه، وإنما الحديث حول من يتلظى خلف قناع المكانة (الوجوه الفرعونية مثلًا) أو قناع المال (الوجوه القارونية مثلًا) التي ستنماث وتتبدد، وتبرز بعد ذلك حقيقة وضاعتهم وما يمتازون به من بخل وتكبر وتبلد الإحساس تجاه حاجات الآخرين.

فصاحب المال والجاه الدنيوي – ممن همهم وملاذهم ملذات الدنيا – له محددات في شخصيته كالتعالي والشعور بالاقتدار المطلق و احتقار الآخرين، كما أنه يحمل تصورات واهمة كتحديد مفهوم السعادة بامتلاك المال بل ومن خلاله يمكن شراء كل شيء حتى الذمم، ومثل هذا الانتفاخ والتضخم الذي عاشه في الدنيا يزول ويندثر في يوم القيامة عندما تظهر الحقائق والأسرار وتنقلب المشاهد في ذلك اليوم المهيب.

ومن مصاديق الخفض في المكانات واختفاء القناع الزائف هم المتلونون اجتماعيًا، والذين يمارسون في العلن ما يتوافق مع المجتمع والبيئة التي يعيشون فيها، بينما هم يخفون ويضمرون السوء والخبث والأحقاد ومساويء الأخلاق، ويظنون بذلك أنهم يخادعون الآخرين وأنه قد انطلى مكرهم ولن يكشف أبدًا، وإذا بهم في يوم القيامة أمام حقيقة ظهور السرائر وانكشاف ما يبطنونه في الدنيا، فتلك المكانة الاجتماعية التي صنعتها ألسنتهم المعسولة وتصنعهم التعامل بالحسنى زيفًا وكذبًا، اليوم تزول وتظهر كل مكائهم وعناوين تعاملاتهم فيبهتون ويصعقون بما ظنوا أنه لن يأتي ذلك اليوم في الدنيا، ولكن العدالة الإلهية تواجههم بما فعلوا، تتقشع تلك الأقنعة الدنيوية لطلاب الشهرة وتسخير إمكاناتهم المادية والعلمية والاجتماعية لتحقيق منافعهم الخاصة التي كانوا يموهون عنها بالعبارات الرنانة الخداعة.

(رافعة) أي هناك من هم في الدنيا مغمورو الذكر وتخفى حقائقهم الطيبة و الإيمانية، وذلك لحرصهم على الإخلاص في النية لله عز و جل و طلب رضوانه وإعراضهم عن طلب المكانة الخاصة بالرياء في الأعمال، ولتواضعهم و بساطة تعاملهم واحترامهم للآخرين مع ما يمتلكه هؤلاء من إمكانات وقابليات معرفية عالية، ولكنهم ينظرون إلى الغير بعين العطف والرأفة ويتعاملون معه بالحسنى، وإذا بهم يوم القيامة أصحاب المقام الرفيع وكأنهم أنجم متلألئة، وقد يعاني الكثير منهم من نظرة الاستنقاص والازدراء من أهل الدنيا، ويتهمونهم بالتخلف و ذلك لأنهم متمسكون بقيمهم الدينية والأخلاقية ويرفضون التملق والتماهي السلبي ، بينما هم اليوم بين يدي العدالة الإلهية يحظون بأعلى المراتب والمقامات، فقد كانت دنياهم عامرة بذكر الله تعالى ويستنيرون بالخشية منه تعالى والورع عن محارمه، فما كان همه الشاغل متاع الدنيا الزائل وإنما عينه على آخرته فاستعد لها باجتناب الزلل والآثام والمساويء الأخلاقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى