أقلام

خيوط المعازيب: اللهجة ومنظومة التقاليد

هناك فروق واضحة بين قرية وأخرى، كما أن لهجة مدينة المبرز تختلف إلى حد ما عن الهفوف وباقي القرى. بشكل عام يمكن التعويل على أن منظومة التقاليد التي تحكم مجتمعات الأحساء تشترك في نواة واحدة لكن أطراف هذه النواة تختلف من مكان لآخر وهذا الاختلاف هو الذي يحدد الشخصية المحلية لكل قرية ومدينة في الأحساء.

تردد الحديث حول اللهجة التي قدمها المسلسل الرمضاني خيوط المعازيب وأنها تمثل لهجة أهل الأحساء، ودون شك أنها أحد اللهجات الغالبة في هذه المنطقة من المملكة، على أن الأحساء، مثل كثير من مناطق المملكة تتميز بطيف واسع من اللهجات ولا يمكن أن نقول أن هناك لهجة وحيدة مهيمنة خصوصا في منطقة تتميز بطيف اجتماعي وطائفي واقتصادي متنوع. ثمة اتفاق على أن هناك خيطا رابطا يجمع كل اللهجات في الأحساء وحول هذا الخيط تشكلت لهجات متعددة بعضها يمثل اللهجة الثقيلة والبعض الآخر يبتعد ليشكل لهجات شبه مهجنة نتيجة لوجود تنوع اجتماعي قائم على هجرات قديمة وحديثة من مناطق أخرى. سوف أتحدث عن حي النعاثل في مدينة الهفوف، وهو الحي الذي ولدت فيه وكان مرتع الطفولة والشباب، وهو حي يمثل هذا التنوع الملفت في اللهجات الأحسائية. إذا ما رجعنا إلى “خيوط المعازيب، سوف نجد أن لهجة المسلسل تمثل القلب الحرفي في الهفوف أي حول سوق القيصرية ويشمل حي الرفعة الشمالية (خلف السوق) والجزء الشرفي من حي الكوت وبعض الأجزاء من شرق حي النعاثل والجزء الشمالي من حي الرفعة الجنوبية (الفوارس). وهذا القلب الحرفي تميز منذ نشأت المدينة في القرن السابع الهجري بتقاليده التي ترسخت عبر الزمن، خصوصا وأنه كان الجزء العمراني الذي نشأت حوله الهفوف (البداية كانت من الرفعة الشمالية التي كانت عبارة عن قرية مستقلة تسمى “الرقيات” كونها مبنية على منطقة مرتفعة).

دعونا نتفق أن هذا القلب يمثل اللهجة القديمة التي تطورت واكتسبت مفردات جديدة باستمرار، خصوصا أنها منطقة تمثل المركز التجاري والأحساء معروفة بنشاطها التجاري التاريخي سواء من خلال ارتباطها بالضفة الأخرى للخليج والهند أو قلب الجزيرة العربية، كما أن هذا المركز مرتبط بقرى الأحساء التي تتنوع لهجاتها حسب موقعها ومكونها الطائفي فالقرى الشرقية أغلبها من طائفة الشيعة الذين يعملون في الفلاحة ويتحدثون اللهجة الثقيلة بينما القرى الشمالية ومن ضمنها مدينة العيون فهي مناطق هجرات ولهجاتها مهجنة تتداخل فيها لهجات البادية والمناطق التي قدم منها المهاجرون بينما القرى الجنوبية الشرقية فسكانها يغلب عليهم الطائفة السنية ولهجتهم أحسائية متوسطة وخفيفة. هذه الخارطة العامة للهجات، لا يمكن القول إنها دقيقة ما لم يتم دراستها بعمق، فهناك فروق واضحة بين قرية وأخرى، كما أن لهجة مدينة المبرز تختلف إلى حد ما عن الهفوف وباقي القرى. بشكل عام يمكن التعويل على أن منظومة التقاليد التي تحكم مجتمعات الأحساء تشترك في نواة واحدة لكن أطراف هذه النواة تختلف من مكان لآخر وهذا الاختلاف هو الذي يحدد الشخصية المحلية لكل قرية ومدينة في الأحساء.

ولو عدنا إلى حي النعاثل سوف نجد أن اللهجات تتنوع داخل هذا الحي (وقد ينطبق هذا على باقي الأحياء في الهفوف والمبرز) فالجزء الجنوبي الشرقي من الحي مرتبط بالمركز التجاري وترتبط بالممر الذي كان يدعي “المفيرق” الذي يفصل النعاثل عن الرفعة الجنوبية ويرتبط ببوابة القرن جنوب المدينة. هذا الممر مرتبط بساحة القيصرية (الخميس) الذي وصفها أمين الريحاني في مطلع القرن العشرين بأنها “ريفيرا الأحساء”. لذلك نجد لهجة هذا الجزء من الحي ثقيلة ويسكنه طوائف اجتماعية متعددة. بينما شمال ووسط الحي وجنوبه إلى حدوده الغربية يتحدثون اللهجة الخفيفة والخفيفة جدا كونها مناطق سكنتها أسر أحسائية وأخرى نجدية قدمت إلى الأحساء في القرن التاسع عشر. يمكن أن أذكر أن الجيل الثاني والثالث من أبناء الأسر النجدية صار يتحدث اللهجة الأحسائية الخفيفة ولم يصل إلى درجة اللهجة الثقيلة كما أن كثيرا من أبناء الأسر الأحسائية استمر في لهجته المتوسطة بين الخفيفة والثقيلة لكن الجميع ارتبط بالنواة المكونة للهجة الأحسائية بمفرداتها وأسلوب نطقها (بدرجات الثقل المتفاوتة). هذا يجعلني أعود دائما إلى الجوهر المولّد للتقاليد اللغوية التي تصنع أي لهجة والسلالات اللغوية تولّدت منها.

إذا ما اتفقنا على أن لكل لهجة نسق مرتبط بجوهر مولّد يحدد إطار نطق المفردات يسمح بالتنوع وخلق سلالات لهذه اللهجة تختلف باختلاف التركيبة الاجتماعية فإننا سوف نصل إلى أن اللهجة الأحسائية مكوّنة من سلالات من اللهجات جوهرها قديم وعميق لكنها كونت لهجات مهجنة حديثة ميزت هذه المنطقة وأعطتها شخصيتها الخاصة. سوف أربط ملاحظاتي على لهجة الأحساء بدراسة عمرانية قمت بها منذ ثلاثة عقود حول أحياء الهفوف وتأثير البعد الزمني على عمارة تلك الأحياء. كان الهدف من الدراسة هو البحث عن أصول الأشكال العمرانية والتراكم الذي حملته تلك الأشكال نتيجة تطور الخبرات وتغير الظروف الاجتماعية. وجدت أن حي الرفعة الشمالية (أصل المدينة) هو أكثر الأحياء الذي يوجد فيه “سابطات” (الغرف الطائرة فوق الطراقات) وسكك هذا الحي ضيقة جدا نتيجة لزيادة الكثافة السكانية وعملية تعدي المنازل على الطرق) بينما نجد حي الكوت (الحي الإداري ومقر الحكم) يختلف من شرقه إلى غربه فالقديم منه (الشرق) أكثر اكتظاظا وهذا ينطبق على حي النعاثل الأكثر حداثة حيث يحتوي على طرق واسعة و”ساباطات” أكثر تطورا وبعقود نصف دائرية وهي نادرة في الرفعة الشمالية والكوت.

هناك تقارب شديد بين اللهجة والعمران يمكن ملاحظته، فهناك كثير من الدراسات تربط بين العمارة واللغة وترى أن منظومة التقاليد التي تولّد اللهجة هي نفسها التي تخلق العمارة ومفرداتها. هذا يجعلني أدعو إلى التفكير مليا في إجراء دراسات واسعة حول المعجم الأثنوغرافي لمنطقة الأحساء والمناطق الأخرى في المملكة، ليس فقط كمفردات (لأنه حسب علمي قام الدكتور سعيد الوايل بإعداد معجم للمفردات) لكن الدراسة الاثنوغرافية تتضمن البحث عن جذور المفردات والأشكال (المنتج المادي وغير المادي) وفهم المنهج الذي ولد اللهجة وكذلك العمارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى