أقلام

وجهه (قصّة)

زهراء موسى

في منامي البارحة رأيتُك بهيئة المسافر على الدوام. بحقيبة ظهرك وقبّعتك وسترتك. رأيتك خارجا بعد أن ودّعتَ الصغير. عرفتُ في حلمي أنك جئت لتفرش البيت لأجله. لكنك لم تفرشه بالسجّاد العجميّ العتيق الذي تؤثره، كان (موكيت) بلون عسليّ، ووحدة زخرفيّة إسلاميّة بسيطة. كان الصغير في حلمي يطأ عليه برجليه الحافيتين فتغوصان في الفراء الوثير، يمشي وئيدا ويدعك قدميه بالموكيت ثمّ يقوّسهما ويفرك أصابعه ببعضها ملتذّا بنعومته.

لأجله فقط تعود، لكن لا تبقى لأجله. لا أفهم نوع العلاقة التي تربطكما، يحبّك لكن لا يشكو غيابك، يفرح بقدومك لكن لا يتعلّق بك وأنت راحل، لا يسأل عنك ولا ينساك.

لو أنك أكملت طريقك خارجا ولم تلتفت لتراني جالسة على الأريكة، أراقب الصغير يذرع الصالة بخطاه محتفلا بالموكيت الجديد؛ لو أنك لم ترجع خطوات إلى الوراء وتجلس بقربي على الأريكة، لو أنك واصلت سيرك، لو أنني شيّعتك بلعناتي وطلبت منك ألّا تعود مجدّدا ولا ترينا وجهك الملبّد البارد الكريه. لو أنك لم تعد وتجلس على الأريكة بقربي دون أن تقول أيّة كلمة، لو أنني لم أهجم عليك وأمسك بتلابيب قميصك وأخبرك بأنك أسوأ أب يمكن أن (يحظى) به ابن. لو أنك لم تعد.. لو أنني لم أقترب منك وأتلوّث بإشعاعاتك المميتة.. لما مكثتُ في الفراش مريضة، ككلّ مرّة أراك فيها بالمنام.

الذين يكرهونك قالوا لي أنكَ بلا إنسانيّة، تستغلّ سذاجة بنت بعمر ابنتك، والذين يحبّونك قالوا عنّي غريرة، وأني أسأتُ فهم حقيقة مشاعري نحوك. لكن أحدا منهم لم يعرف حقيقتك.

في الوقت الذي أرادوا أن تكون لهم أبا أردتُ أن أكون أمّك، وبينما أرادوا أن ترعاهم أردتُ أن أعتني بك. أنا من لم تقنع كالآخرين بمجرّد الوصول إلى ساحل صدرك، ولكن نفذت كسهم نشب بين أضلاعك. أنا من لم تنخدع بدفء حضنك الكاذب وتستسلم للغيبوبة، أنا من دفعها الجنون لتوغل عميقا، وترى ما لم يره الآخرون.

أنت يا معبدا عصيّا في قمّة جبل جليديّ، أنت يا نصف إله! أقنعتَ الآخرين بأنك القريب البعيد، بأنك تسعى إليهم بكلّك لكن قصورهم لا يبلغ ذراك! وكنتُ الوحيدة من بين مريديك من لم تنهزم أمام التحدّي، تسلّقتُ جبل الجليد، اللهب الذي يومض لي من بعيد في مدفأتك كان وقود عزيمتي وإصراري على بلوغ القمّة، وفي لحظة انتصاري؛ اللحظة التي أويتُ فيها بين أضلاعك لم أجد ثمّة قلب.

أنت الذي تبدو عطوفا مع أعدائك، حصيفا، مداريا. وتبادل اللطفاء بلطف أبلغ وأسبغ، وحدي لمستُ الصقيع الذي يعشّش في صدرك، أنت الذي لا تنتمي إلّا إلى نفسك، ولا تحتمل العيش برفقة أحد إلّاك. كصقر تحلّق وحيدا في الأعالي، كذئب وحيد يعوي.

هناك بين أضلاعك، وفي المكان الذي يفترض أن يكون ثمّة مضغة من لحم ودم، تنبض بالحرارة والحبّ، وجدتُ صخرة صمّاء، بها نقرة يجتمع فيها قطر السماء، هناك صفحة جدول رائق، مرآة سحريّة! كلّ من ينظر فيها يرى ما يريد أن يراه. أعداؤك نظروا فرأوا خبث طواياهم، والطيّبون لاحت لهم في صفحتك الناصعة أطياف قلوبهم البيضاء، وأنا حين نظرتُ لم أر سوى وجهك.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى