أقلام

دين البشر.. الصنم المقدس وأداوت الصراع

كمال الدوخي

يُعتقد بأن الحالة الدينية للفرد هي حالة جماعية ذات صبغة واحدة، فكل فرد يعيش ضمن مجموعة دينية يتأثر بالتأثيرات ذاتها، مما ينعكس بشكل مباشر على سلوكياته وطريقة تفكيره، وهذا يتضح من خلال نوعية الطقوس، والتي تأخذ أشكالاً من الممارسات الجماعية. بالإضافة إلى تشابه الأفكار والمنطلقات في النقاشات حول حقيقة تلك الحالة.

ومع وجود دلائل منطقية تعزز هذا الاعتقاد إلا أنني أجد بأن الحالة الدينية تحمل شيئاً من هذه الرؤية متى ما أصبحت شريعة يقوم عليها مجتمع ما، ولكن سرعان ما تتبدد هذه القدرة للحالة مع وجود الدولة الحديثة، وتتغير تلك التشريعات وفقاً للمصلحة العليا للمجتمع، فهل نحتاج فعلياً للإصلاح الديني أم للإصلاح السياسي في الدول التي تعاني من مشكلات اجتماعية نتيجة الخلافات الدينية؟!.

لذلك بدأت الكثير من دول المنطقة بمراجعات مهمة، ليس من بينها محاولة إصلاح الخطاب الديني للشيعة أو للسنة، بل من خلال إيجاد خطاب سياسي معتدل يقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين، دون الحاجة إلى تمكين فئة على أخرى، والأخذ بالمصلحة الوطنية دون الالتفات إلى الأصوات المتطرفة لأي طرف سواءً يميني أو يساري، وهنا سرعان ما تعود تلك الأصوات المتطرفة لأوكارها، فمع أن الأصوات المتطرفة تستمد قوتها من المجتمع لكنها لا تتمكن من مقاومة التشريعات التي تسنها الدول، ومع قدرة تلك الأصوات على أن تحلل وتحرم بقوة النص الديني للطائفة، تبقى الدولة هي من تسمح وتمنع بقوة النظام الذي يجمع تحته كافة الطوائف والفئات في مجتمع ما.

القوة للدولة، والدولة تستمد قوتها من المجتمع، وأي فئة تريد مواجهة الدولة ستتجه سائر الفئات لحماية تلك الدولة، وهي بذلك تحمي نفسها، وهنا تأتي أهمية أن تكون الدولة على مسافة واحدة من الجميع، ولديها تحالفات مهمة تمكنها من الاستمرار، وهذا يتطلب قدرة وحنكة سياسية للإمساك بزمام الأمور.

ينشد الانسان بطبيعته الاستقرار الروحي والنفسي والصفاء الذهني مما يجعله يلح على خوض التجربة الدينية، أو كما يقول وليام جيمس بأن الاقتراب من سلامة التفكير توجب خوض التجربة الدينية. المؤلم إصرار البعض على إمكان إيجاد تجربة دينية فلسفية، أو إثبات وجود الله فلسفيًا كما أشار توماس أكويناس؛ وهو إصرار لا معنى له، لأنه خيار نخبوي لا يؤثر إلا على قلة قليلة، هذا إن استطاع التأثير.

وتصر فئة على أن إصلاح الخطاب الديني ضرورة يجب أن تفرض على المؤسسات الدينية، من خلال السلطة أو من خلال النقد المستمر والإثارة وتعزيز الصراعات الهوياتية، وإيجاد انقسامات في المجتمع نتيجة طريقة النقد الذي يستخدمه هؤلاء. فتارة باستخدام لغة حادة تجاه فئة، واستخدام لغة ساخرة ورسوم كاريكاتورية تجاه فئة أخرى، مما يخلق ردّات فعل تزيد من حالة التطرف، والشعور بالحاجة لحماية الهوية الدينية. وتارة من خلال تجريم فئة أو ربطها بالإرهاب (الإسلامفوبيا)، سيان من يستخدم اللغة الساخرة والنقد المستمر للهوية الدينية وللرموز الدينية ومن يرسم كاريكتير للإساءة إلى دين أو نبي، كلاهما يتسببان في ردّات فعل مشابهة، من أجل حماية الهوية الدينية، ولو على حساب المصالح الفردية أو الوطنية الأخرى.

في المجتمعات ذات الهويات المتعددة يشعر الفرد بالقلق على هويته الدينية أو العرقية أو الإثنية، والسؤال لماذا نحتاج إلى زرع هذا القلق وتعزيزه، في ظل تحولات فكرية تفرضها المدنية والعولمة؛ تحولات تؤكد بأن الحالة الدينية هي حالة ذاتية وشخصية، وأن هذا الشعور بالانتماء إلى جماعة ما يزداد كلما واجهناه، ويقل كلما تركنا الإنسان حراً في خياراته الدينية، فالإنسان بطبعه يؤثر مصلحته.

أغلب من يستخدم لغة الاستفزاز والتسقيط هم ضعاف الحجة والإمكانات، لذلك يلجأ إلى هذا السلوك ليقول (أنا هنا)، كما فعلت وتفعل صحيفة شارلي إيبدو، ونجحت في أن تكون اسماً لا تنساه أوروبا ولا العالم الإسلامي. وكما يفعل بعض دعاة التجديد في الخطاب الديني، هو يحاول أن يقول انظروا إلي. ثم يقابل أي ردة فعل اتجاهه صارخاً بمظلومية مدعاة، كما فعلت شارلي إيبدو وبعض دعاة التجديد في الخطاب الديني، ودعاة الحداثة وغيرهم.

مَن لديه قراءة دينية أو حداثية يريد تقديمها، أو فن يريد إبرازه، ألا يمكنه أن يبادر بطرح ما لديه دون استفزاز الهويات، والتطفل على الخيارات الشخصية لدى الآخر، الجواب: نعم لديهم طرق أخرى، وهذا هو الفرق بين من يريد أن يقدم علماً ينفع الناس وبين من يريد أن يبرز شخصه، للوصول إلى مجد ذاتي.

المصلحة الفردية لا تؤثر على الحالة الدينية الذاتية وحسب بل تؤثر على طريقته في الدفاع عنها، وكلما كانت مصلحته تقتضي الدفاع عن الهوية تزداد قوة مواجهته، وسواء كانت هذه المصلحة فردية أو جمعية، دنيوية أو أخروية، تبقى طريقته في الحفاظ على هذه المصلحة أو جلبها هي ما يحدد خيارات المواجهة.

الإنسان العادي لا يهتم بنقد الخطاب الديني، هو إما يقف مع أو ضد، وإما لا يبالي، بحسب محيطه ومصلحته الذاتية، فهو لا يفهم حقيقة الإشكالات المطروحة ولا يدرك آثارها، فيما تزداد حدة المواجهة لدى المهتمين. ونتيجة هذا النقد والاستفزاز العلني زيادة حالة التعصب في المجتمع، ومنح رؤوس التطرف وتجار الدين الفرصة لطرح خطاب مضاد يزيد من شعبيتهم ويرجح كفتهم، على حساب رجل الدين المعتدل أو المثقف المعتدل، ونتيجة هذه الصراعات يسود التطرف وقد تصل الحالة إلى المساس بالسلم الاجتماعي والوطني.

بالنسبة لي أنظر نظرة سلبية إلى كل من يحاول توجيه النقد إلى فئة ينتمي إليها، مدعياً التقرب من الآخر المخالف، ولا أجد أي فارق بين التصفيق للشيعي الذي يشذ عن طائفته وينتقدها أو التصفيق للسني الذي يشذ عن طائفته، أو المسيحي أو اليهودي.. والترحيب الذي يجده هؤلاء من المخالفين ليس حبًا لهم ولا تسامحًا معهم، وإنما نكاية بالفئة الأخرى التي كان هذا الشاذ ينتمي إليها، ومهما أبدى المرحبون بهؤلاء الشاذين من الأسباب والتبريرات، يبقى ترحيبهم كاشفاً عن طبيعتهم المتطرفة. والضريبة أن يصبح الصوت الناقد في محل شك مستمر، فهل يطلب من نقده مصلحة ذاتية أم جمعية؟.

لا يثق الإنسان في قدراته الذاتية مهما بلغ من العلم، بل يصبح أكثر تشكيكاً فيها مع زيادة علمه واتساع مداركه، وهذا يزيد من قلق الإنسان حيال وجوده، وإيمانه بإله مهما كان قوياً، ويبقى غير واثق من صياغته لعلاقته بإلهه، فيحتاج لمن يتفرغ لصياغة هذه العلاقة، ممن يطمئن إلى تجربتهم الدينية مع المعبود.

التجربة الدينية تعطي معنى للحياة والوجود، من خلال الإجابات التي تقدمها الأديان لأتباعها حيال أسباب الوجود، والموت، وما بعد الموت. وإن عملية زرع الشك المستمر حيال هذه التجربة يعيد الإنسان إلى حالة القلق. ومع زيادة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، والتحولات المتسارعة التي أصابت الإنسان باضطرابات نفسية وجسدية، لِمَ نزيد -بإعادة تلك الأسئلة- من أعباء الإنسان العادي، الذي يريد أن يدرس ثم يعمل ويتزوج وينجب ثم يموت مطمئناً بما لديه من رصيد من الأعمال الصالحة، التي ستخفف عنه عذاب الآخرة بحسب معتقده.

يستمر هؤلاء بشكل متواصل في إثارة تلك الأسئلة والإشكالات عبر مواقع التواصل والقنوات الفضائية العامة، وعندما تسأل أحد هؤلاء -على حين غرة- هل أنت مرتاح الضمير ومستقر النفس والعقل حيال ما وصلت إليه، سيخبرك بأنه ما يزال يعيش حالة القلق والشك، ثم يبرر بأن هذا دأب العالم والمفكر والمثقف. ومن قال بأن البشرية كلها تريد أن تصبح  فلاسفة وعلماء ومفكرين ومثقفين؟!.

والغريب أن الناقدين للحالة الدينية في أي مجتمع يعيبون على من يحتفظ بقناعاته التقليدية، ويصمونه بالرجعية والتخلف، ويمعنون في إهانته. وعندما تصدر منه أي ردة فعل تجاههم يصفونه بالمتنمر أو المتطرف أو يتباكون ويصطنعون المظلومية. والمثير للاشمئزاز أنهم يعاملون المختلفين معهم بالأساليب نفسها التي يعيبونها ويتباكون منها. وبينما يعيرون الآخرين الرجعيين -بحسب منظورهم- لاتخاذهم أصناماً؛ يقومون هم كذلك بالمثل، ويتخذون لأنفسهم صنماً مقدساً يخصهم.

نحن أمام عبث مصدره الأنا والمصلحة الذاتية، وبالإمكان استدعاء نماذج معاصرة، لنستذكر تحولاتهم الفكرية، ونحن لا نصادر حقهم، ولكن لماذا يريدون جر الناس وراءهم في كل تحولاتهم؟!.

لكل إنسان حالة دينية فريدة، وإن تشابهت مع آخرين في محيطه، ولا يمكن إطلاق أحكام عامة على أي تجربة أو حالة دينية إلا من خلال دراسة كل تجربة وحالة على حدة، ودراسة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، لفهم تلك التجربة أو الحالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى