أقلام

(مع شخصيات الفكر والأدب) صباح عباس آل هاني {٣}

ناصر المشرف

تجربتي مع القراءة والكتابة

أيها الأعزاء
سأخذكم معي في رحلة خاصة مع دولاب الزمن إلى سنواتي الأولى والظروف الطارئة التي عشتها فكونوا بالقرب.

١- طفولة خاصة

لم تحظْ قريناتي في طفولتهم بما حظيت به من الرعاية والاهتمام البالغين، وذلك بسبب ما تعرضت له من مرض أقعدني الدار وألزمني الفراش دون حراك لحولين كاملين وأنا دون السابعة من عمري!

وحين عجز الأطباء عن علاجي ومداواة أوجاعي وآلامي، تحرّك والديّ في محاولة لإنقاذ حياتي من الهلاك وطافوا بجسدي النحيل من بغداد إلى دمشق ومنها إلى بيروت للبحث عن الدواء الشافي لعلتي وسقمي !!

لا أزال أستحضر القلق والوجوم الذي اعتلى وجوه والديّ وجدي، بل لا تزال ذاكرتي تحفل بصدى كلمات الاستجداء للأطباء والمختصين لإنقاذ حياتي من خطر الألم والمرض والموت!!

إن هذه الانعطافة الصحية المفصلية الحرجة في طفولتي المُبكرة تركت آثارها بشقيها الإيجابي والسلبي على شخصيتي فيما بعد، فمن جانب أيقظت هذه الحادثة عقلي الصغير لأدرك قيمة الحياة وذلك باستثمار كل الفرص المتاحة أمامي، ومن جانب آخر أصبت بحساسية الخوف المفرط من الأشياء والأحداث الذي لازمني ورافقني في جميع فصول حياتي.

٢ – صفوى القاع لا القناع
بيئتان قامتا بدور كبير في بنائي وصناعتي، البيئة الأولى صفوى .. ديرتي التي أحببتها وأحببت أهلها، فقد لا تكون معروفة وواضحة على خارطة العالم، ولكنها كانت عالمي الكبير الذي أرى من خلاله كل الوجود، هذه الواحة الغنّاء المُشبعة برائحة الطيبة والمحبة وشجر النخيل والليمون البلدي واللوز والتكي وعطر الريحان والرازقي في حقولها ومشاتلها التي تحيط بها من الشمال والجنواب كالسِوار حول المعصم، والغنية بمياهها العذبة كعين داروش وحمام أبو نص وشريعة بيت شبيب والعوسيي وعشرات العيون في جداول مائية تخترق البيوتات لتروي البلدة الهادئة، ناهيك عن العيون الارتوازية التي يصعب حصرها، التي تتجاوز عشرين عيناً، تتدفق المياه في قنواتها أينما اتجهت وسرحت ببصرك.

هذه الديرة الخضراء جنتي التي عشت فيها، فلقد جبت أحياءها وأزقتها وعبثت بترابها، فعلى أرضها شاركت جدي وجدتي في الزراعة والري والحراثة ورعي الأغنام ورعاية الأبقار.

ديرتي خضراء بأرضها وخيراتها وثمارها، خضراء بطيبة أهلها وارتقائهم في سلم العلم والفكر والأدب وتميزهم بالأخلاق والكرم وبسط الكف.
إن هذه البيئة النظيفة ساهمت في تكويني وصقلي وأعدها أحد أبرز الملامح الحقيقية لتقوية ساعدي على الكتابة ومساندتي في امتلاك الثقة بنفسي.

٣- أمي أعظم مدرسة
البيئة الثانية التي ساهمت ولا تزال في إنتاجاتي الثقافية هي أمي، فمن مرفأ الذاكرة وأرجع بخطواتي ألى الوراء، إلى البيت الذي تميّز عن غيره بوجود أمي، المرأة القوية الشجاعة التي قهرت الظروف من حولها، لقد كانت منفردة في تفكيرها ومواقفها ورفعت شعارها أكون أو لا أكون! وكانت كما تريد وفوق ما تريد !!

لقد عمِلت بجهد وجد واجتهاد ولم يشغلها عملها في كسب الرزق والحياة بعز وشرف وكرامة عن ملاحظتنا ليس فقط في المجال السلوكي والأخلاقي وإنما في المجال المعرفي والعلمي والسير معنا خطوة بخطوة.
لقد صنعت لنفسها موقعاً خاصاً بها وواقعاً مختلفاً عمّا عليه المرأة في منطقتنا، لقد كسرت الرتابة وكانت المرأة الأولى من بين المئات لتقوم بما قامت به من أدوار ومهام جسيمة وعظيمة.

أمي المدرسة الأولى التي أستمد منها قوة العزيمة وأستلهم منها روح العطاء، فهي شعلة متوقدة على الدوام، وإن كان في حياتي إنتاج أو إصدار فبفضل صناعتها وتوجيهها، إنها ترقب كتاباتي وتحفّزني على الاستمرار والإنتاج دون توقف، فهذا المناخ العائلي الخاص كان له أكبر الأثر في بناء مخيلتي وحواسي.

٤- خط البداية

إن التماس خيط البداية صعب حقّاً، فالمهمة ليست سهلة مطلقاً، فذاكرتي تحفل بالمواقف والأحداث لتلك المرحلة البكر، وعلى مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية. كنت الصبية الخجولة والمترددة والخائفة، فكانت لي أولى المحاولات الجادة في صياغة الكلمات حين تقدمت على قريناتي في مادة الإنشاء وبدأ اسمي يلمع في أروقة المدرسة، فمن الإذاعة الصباحية إلى الكلمات والمشاركات في مجالس الأمهات التي تنظمها المدرسة لتتحرك أصداء مشاركاتي الكتابية إلى كل من حولي من الجيران. والأهل يلجؤون لي لكتابة خطابات الاستجداء وطلب العون لبعض المعوزين وذوي الاحتياجات الخاصة، وتقديم طلباتهم لبعض الدوائر الحكومية كوزارة الشئون الإجتماعية وديوان المظالم وغيرها، ثم اتسعت مجالات مشاركاتي لتصل إلى جلسات اللجنة النسائية والفعاليات الثقافية التي تقام في المنطقة.
في هذه المرحلة التي استمرت نحو عقد من الزمن كانت الكتابة بالنسبة لي مجرّد هواية أمارسها عند الحاجة إليها.

٥- عبثية الهواية وجدية الهوية.
كانت الكتابة فيما مضى لا تمثل سوى هواية أزاولها بين الفينة والأخرى، وفي رحلة الاغتراب التي تجاوزت اثني عشر عاماً، اليوم استعرض أطياف تلك الرحلة الجميلة التي تترك أشعتها الدافئة على حياتي.
ثمة علاقة قوية تربط بيني وبين تلك الأجواء، إنها أجواء شديدة الخصوصية، بالغة التأثير، فالمناهج الدراسية والفعاليات الثقافية والبرامج المتعددة كلها تمثل لي نهر متدفق من المعرفة.
لقد كانت تجربتي في رحلة الاغتراب مفاتيحي لخيارات عديدة.

٦- التجربة البكر
كتاب الحياة الزوجية مشاكل وحلول، إصداري الأول الذي رأى نور الشمس عام ١٤١٠ هجرية، ولخوض هذه التجربة موقف أذكره هنا..

في منتصف شهر ربيع الآخر من العام نفسه حُظيت بلقاء أحد الأساتذة والمفكرين في لقاء ثقافي، وأشار في أثناء حديثه إلى أهمية الكتابة، وحفّزنا وقتها وشجعّنا على ممارسة الكتابة، ونقل المعرفة للآخرين.

لا أدري ما الذي أحدثته كلماته الموجزة البسيطة في داخلي من رغبة قوية في التنفيذ وأصرار غير طبيعي على خوض تجربة الكتابة!

لقد قررت في اللحظة نفسها وأنا لم أبرح مكاني، أن أكتب كتاباَ دون تسويف وسأبدأ اليوم وليس الغد بوضع النقاط على الحروف.

إن هذا القرار الصائب الذي اتخذته من أبرز القرارات الذكية التي اتخذتها في حياتي!

وبالفعل رسمت هيكل للكتاب وجدولت الفصول والأبواب وبسم الله وبالله بدأت وتوكلت على الله تعالى وواصلت الكتابة دون توقف.

لقد كان من الصعب الكتابة خلال النهار لزحمة جدولي كأم وطالبة ومعلمة وشغل البيت والأطفال، فكنت أرقب الليل وأنتظره بحماس كل يوم.
أكملت طريقي وواصلت الكتابة على ضوء الشموع مُستغلة نوم أطفالي وهدوء المكان لأكمل ما بدأت ولأحقق ما أُريد!

لقد اكتملت فصول الكتاب وتفاصيلها ودعّمته وقوّيته بالاستشهادات والأدلة، فكما ولادة الطفل البكر وفرحة الأم بوليدها الذي تراه للمرة الأولى، كان احتفائي وفرحتي بكتابي الأول الذي خرج من رحم التحدي والعوائق والضغوط ليرى النور في ٢٧ رجب المرجب في ذكرى المبعث النبوي بإشراق نور الإصرار والتحدي في داخلي وابتعاثي من جديد ..

كانت عيون زوجي وأبنائي تلمع بفرحة المولود الجديد !

غمرتنا السعادة وأقمنا الاحتفال بقدومه وشاركني فرحة إصداره الأهل والأحبة والأصدقاء
لقد كانت هذه التجربة حافزاً قوياً للإنتاج الثقافي وإعادة تجربة التأليف والكتابة مرة أخرى.

٧- حتى لا يكون الحلم حطاماً

التجربة الثانية هي كتاب : الانحرافات السلوكية .. الأسباب والعلاج الذي صدر عام ١٤١٣هـ وهو كتاب بحثي دراساتي.

أما التجربة الثالثة فهي كتاب: حتى لا يكون الحلم حطاماً.
لقد نقلت بين صفحات هذا الكتاب عُمق التجربة الشخصية الحية التي عشتها لفترة تزيد عن ستة وعشرين عاماً.
بعد قضائي خمس سنوات على هذه التجربة قررت الكتابة حولها، فهي تجربة خصبة مليئة بالأحداث والمفاجآت في مدينة الرياض مع المئات من الشابات الجامعيات اللاتي يسافرن للتحصيل الدراسي العالي في مدينة الرياض، وكنت المسؤولة المباشرة عن إدارة هذا المشروع الضخم حديث التجربة!!

مسؤوليتي تكمن في متابعة شئون الطالبات وحّل قضاياهن المختلفة السكنية والنظامية والأخلاقية والصحية والخدماتية ومتابعة حركة الدخول والخروج والمواظبة والتغيب، ومتابعة حركة سفرهن من الرياض إلى القطيف والأحساء والعكس،
ومعالجة كافة المشاكل التي تواجههن، لقد كان عددهن يتجاوز الألف ومائتين طالبة في خمسة مبانٍ سكنية.
لقد كنت المُؤسسة والمسؤولة والمديرة التنفيذية للمشروع لكل القضايا الإدارية والتشغيلية.
لقد حملت لي هذه التجربة عنصر المفاجأة الذي أدهشني، فلقد كنت بأمس الحاجة إلى من يشاطرني الرأي وإلى من يتفهم حقيقة ما أعانيه وأواجُهه من مشكلات تبدأ ولا تنتهي مع هذه الشريحة وهذا الجيل المتلون بثقافات متعددة وسلوكيات خاطئة في تلك الفترة الصعبة من حياتي.

لقد بدأت أبحر في أعماق التجربة على صفحات الكتاب وأنقل المشاهدات في محاولة مني لمدّ يد العون والمساعدة لهذا الجيل، والتعرّف على هفواته للبحث عن الوسائل الناجحة للأخذ بيده ومساندته وتقديم كل أنواع الدعم والمساعدة ليكون حلمنا في أبنائنا قد تحقق، لا أن يتحطّم ويضيع كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف!!

٨- بين التفاؤل والتشاؤم

في أحيان كثيرة أُخْطي خطواتي المُثقلة باتجاه الكتابة للإفلات من الحزام الحياتي الضاغط، فأنا اليوم لا أستطيع التوقف عن الكتابة مهما تكن الظروف من حولي قاسية أو ضاغطة.

ما يدفعني الآن للكتابة هو إحساسي بالحياة، لأن الكتابة تُحررني وترفع الطوق عن روحي، ولكن !
أُصاب أحياناً بالإخفاق وأخرى بالتشاؤم، فالموضوع الذي أتناوله لا يتناسب مع الفكرة التي في ذهني ومع ما أطمح إليه فيأخذني قلمي في رحلة ضياع وتشتت لأتيه بين الحروف والكلمات دون أن أصل إلى مرادي، فقد أحدد الموضوع وأبدأ البحث وأنطلق لكن لا يزيدني ذلك إلا بُعداً وضياعاً كمن يتعذب في رحلة البحث عن صخرة النجاة دون أن يجدها!

وفي أوقات أخرى يشاطرني قلمي في رحلة البحث عن الحقيقة وتُعينني الكلمات في إيصال الفكرة التي أنشدها وأجد نفسي في حالة تواصل إيجابي مع موضوعي، فأعيش عالمي الخاص ، إنه عالم الكتابة الذي يأخذني في رحلة الإحساس بالحياة وجمالها.

٩- كيمياء الحب والزواج
تولّدت فكرة هذا الكتاب لتقديم المزيد من الدعم النفسي والمعنوي والمعرفي للجيل المقبل على الزواج.

وفي هذا الكتاب عقدت العزم على كسر الكتابة التقليدية ورسم لوحتي الكتابية بأسلوب مُشوق في محاولة لجذب الجيل الجديد إلى القراءة والاطلاع ولاسيما عندما يتناول الكتاب الحياة الزوجية.

لقد كان الكتاب وصيتي لابنتي ليلة زفافها كما فعلت أمامة بنت الحارث في وصيتها الشهيرة لابنتها ليلة زفافها. لقد اجتهدت ليكون الكتاب وصيتي ورسالتي الصادقة بكل مشاعر الحب إلى بناتي وأولادي والجيل الجديد في عالمنا الكبير يتوارثونه جيلاً بعد جيل عبر التواصل الروحي والمعرفي بين الأجيال في نقل التجربة الحية للإستفادة الحقيقية منها.

لقد بدأت أصوغ كلماتي في فترة زمنية قليلة على زفاف ابنتي، وكانت محاولة شبه مستحيلة، لكن من قوس الأفق كانت أشعة الشمس الساطعة تلوح لي من بعيد وتخبرني بأنني قادرة على تخطّي المستحيل. والمدهش في الأمر أني وفقت وأنهيت الكتاب مع اكتمال فصوله في ليلة زفافها لتكون سعادتي أكبر وأروع!

١٠- أنا وقلم الرصاص
العلاقة بيننا قديمة فنحن معاً في الماضي والحاضر. لقد كان رفيقي حين بدأت أرسم الخطوط وأسطّر الكلمات، ليكون قلم الرصاص شاهداً على رسوماتي وتصوراتي وأحاسيسي!

إنه الصديق الذي لا يمل مجالستي ويتحمل الساعات الطوال من الجهد بلا راحة ويصبر على شذبي وضغطي وسهري وسهادي!

إن أبرز ما يشجعني على الكتابة هو قلم الرصاص الذي تعرّض لبري ممتاز ليرافقني فترة أطول.
لقد أصبح قلم الرصاص جزءاً رئيساً من احتياجاتي الشخصية، فقد أنسى وضع فرشاة المعجون في حقيبة السفر، ولكنني لا ولن أنسى أوراقي وقلم الرصاص، فهما خير رفيق في سفري ووحدتي وسيبقى الأمر كذلك حتى يفرقنا الموت!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى