أقلام

الجرعة الأولى

سهام البوشاجع

لم تكن تلك الصيحات القصيرة والحادة التي انطلقت مني حين خرجت من رحم أمي في ذلك النهار المشمس والمتوسط لشهر يوليو إلا جرعة أولى تقويت بها على مسيرة حياتي التي انتصف ربيعها وأيقنت فيها خبراتها وقطفت بعض تجاربها، كان أحد المارة يخبر صديقه بصوت عال بهذه الكلمات فتوالت على خاطري جرعاتي الأولى التي تلقيتها في حياتي وأحببت أن تشاركوني أإياها إن وجدتم شبه بينها وبين جرعاتكم الأولى.
لم يكن سقوطي من على الدراجة التي اشتراها لي والدي وأنا في الثالثة من عمري سوى جرعة أولى عرفتني معنى مختلف للسقوط، أن ما بعده حذر وتأني قبل الخوض في أي تجربة جديدة لم يشتد لها عودي بعد.
ولم تكن كلماتي المضحكة والمعكوسة التي نطقتها أمام زملائي في المدرسة وأنا في الصف الأول الابتدائي حين أبدلت حرف الطاء بحرف القاف في كلمة “لطيف” وعليها تعالت ضحكاتهم علي وحتى أستاذي لم يخف ضحكته لكنه تدارك الأمر وقال لي “شاطر يا عبد الله” فأسكتهم وجلست بعدها منحرجا على مقعدي، تلك كانت حقيقة جرعتي الأولى في تهجئة الأحرف جيدا في المنزل قبل أن أنطق بها في اليوم التالي بين زملائي أثناء الدرس، ولم تكن جرعتي الأولى فحسب، بل كانت جرعتي الجميلة التي تعلمت من خلالها كيف أنطق حرف الضاد مفرقا بينها وبين الظاء قبل الجميع من هم في عمري.
وأتذكر جيدا ضربة أستاذ الدين لي بالمسطرة على أصابع يدي فقط لأنه دخل الفصل فوجدني ألعب مع ثلاثة من الطلبة نهاية الفصل، اكتشفت بعدها أن هؤلاء الثلاثة هم أسوء طلبة في المدرسة، فقد تم تصنيفهم بالمشاغبين بعد اكتشاف الإدارة عملهم التخريبي لدورات المياه نهاية الأسبوع المنصرم لتلك السنة ونحن في الصف السادس الابتدائي، حينها عرفت كم كان حظي سيئ حين قررت اللعب ولعبت مع مثل هؤلاء، وعرفت أيضا كم كان حظي جيد إذ كانت جرعة الظرب الأولى لي هذه علقت في ذاكرتي ولم أنسها حتى يومي هذا وأنا في ريعان شبابي، علمتني أن أنتقي صحبتي بعناية وأختارهم بما يناسبني من جهات وأمور ويناسب المجتمع من جهات وأمور أخرى فالمجتمع له نظرة مختلفة عامة لا سيما وهو يتقن جيدا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخَالِل”
جرعتي الأولى والكبيرة والتي لا يمكن أن تضاهيها أي جرعة تلك التي تلقيتها وأنا في سن المراهقة، حين رأيت صديق عمري أو الذي اعتبرته ذلك ينحاز إلى مجموعة من الرفاق وهم يسخرون مني حين أتيت ذلك المساء بثوب قصر قليلا على ساقي فبان بعض منه، وكان يدور في بالي أنه سيسكتهم ويوبخهم على سخريتهم تلك حين نظرت إلية، لا سيما وهو يعلم جيدا بحالتنا المادية البسيطة، إلا أن ما خلته سيحدث حدث بالعكس تماما، رؤيتي لضحكاته المتشدقة من بين شفتيه وصوت تعليقاته معهم يرن في مسامعي علي ثوبي كانت أشبه بالغيمة التي غطتني وأدخلتني في ذهول مما رأيت وسمعت، وحين قلت له أنت صديقي وتسخر مني! رد علي قائلا: من قال لك بأني صديقك! تلك الجملة حفرت في قلبي خندقا غرزت فيه ألم لم يبرحه لفترة طويلة لكنها أتت بجرعة حقيقية حولت مفهومي عن الصداقة كما يقولون بمقدار 180 درجة. وجعلتني أعرف من هو الذي أطلق عليه صديق، أو زميل، أو رفيق، أو مجرد عابر سبيل.
تتوالى جرعاتنا الأولى في مسيرة حياتنا نأخذها الواحدة تلو الأخرى تكسبنا قوة وأخرى تلهمنها فكرة أو تحذرنا من كبوة، فكلها جرعات نتلقاها من الحياة وتكتب لنا الحياة بنضج ووعي رغم الألم.
كثيرة هي الجرعات لو أعددتها لما انتهيت منها ولو عقدت مقارنة بينها وبين ما لديكم من جرعات لالتقينا في معظمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى