أقلام

كان يا ما كان

فاطمة محمد

كان يا ما كان، في قديم الزمان، وفي سالفِ العصرِ والأوان، حذَّرتِ الأرضُ السكانَ، بيدَ أنهم لم يَصْغوا الآذان، وتجاهلوا بالمعاصي والهوان، وحدثَ أخيراَ وبعدَ كُلِّ الصَّبرِ من قِبَلِها ما لم يكنْ بالحسبان، سأبدأُ لُبَّ الحكايةِ الآن:
تنهدتِ الأرضُ مراراً عَلَّ أنْ يشعرَ بها الإنسان، ويُعيدها لطبيعتها المفقودة، غيرَ أنَّه لم يسمعْ هذه التنهيداتِ المملوءةَ حرقةً، قالت لهم بصوتٍ خفيٍّ ليسَ باللسان، وإنما يفهمُه كلُّ عاقلٍ، قالتْ بملء فِيْها: أنا مُتعبٌة، إنْ طالَ هذا النصب لن يحدثَ خيراً، ومشى يَعيثُ فيها الفسادَ ويُفكِّرُ بأنَّ الأرضَ طوعَ أمرِه، وليس باستطاعتِها أنْ تثورَ لذاتها!
غيرَ أنها وبعدَ قرونٍ عديدةٍ من تكبُّر بني آدَم وترفِهم الذي لا يشعرون به، أتى يومُ الميعاد.. في أواخرِ السنة التاسع عشرة بعد الألفين، حيث نامَ البشرُ ولم تنمِ الأرضُ، وهي قد عزمتْ على القيام بما ترغبُ به منذ زمن… ولم تُشرق الشمسُ إلاَّ ووباءٌ مُنتشرٌ، سيطرَ عليها كلِّها، وأصبحتْ هذه المعمورةُ الواسعةُ، صغيرًة جداً أمام فايروس يصغرُها بملياراتِ الأحجامِ.
انقطع الناسُ عن ترفِهم، وبكتِ الدولُ من كلِّ هذا الفقرِ الذي يَقْدِمُ إليها على مَهْلٍ، وبكى الناسُ والأطفالُ، وشعرَ الإنسانُ-ليس كل إنسان-، بأنَّه أحقرُ مِنْ أنْ يتكبَّر، وأصغرُ مِنْ أنْ يرى نفسَهُ مسيطراً على هذا الكوكب. يظنُّ البشرُ أنَّ العالَم صغيٌر تحدُّه دائريُة الأرضِ، وما علموا أنَّ كلَّ هذه الكواكبِ والمجرّاتِ تفوقُهُ في العظمةِ، وعَرِفَ أخيراً أنَّ قضاءَ اللهِ قائمٌ، وأنَّ بين ليلةٍ وصباحها يتغيَّرُ كلُّ العالمِ.
لقد ضجَّ الناسُ بالدُّعاءِ، غيرَ أنَّ آخرينَ لم يُعيروا الأمرَ اهتماماً، ولم يزدْهم هذا البلاءُ إلا عِصياناً.
هل تتخيلُ يا بُنيَّ أنَّني أنا المستلقية بجانبِكَ أقراُ لكَ الحكايةَ، أنْ أتى زمن على هذه الأرضِ لا تستطيعُ الأمُّ أنْ تضعَ يدَها على شَعرِ ابنها الناعمِ خوفاً منه وعليه؟! مَن كان يتصور أنَّ المائدةَ الممَددةَ، وأَكْلَ الطعامِ من الأرضِ بعد النفخِ فيه، وكل عدم المبالاة هذه سيُحرمُ منها؟ وبصورةٍ غريبةٍ شعروا بأنَّ هذا الحرمانَ أَبَدِيٌّ.
لقد كانوا يا بُنيَّ لا يستطيعون التقبيلَ والعناقَ، وكانت الشاشةُ هي الوحيدةُ القادرةُ على أنْ تجعلَ ملامحَهُم بجانبِ بعضِها، ككلِّ الأمورِ المفاجئةِ، فَزِعوا لهولِ ما رأَوْا مِنْ موتٍ سريعٍ، تبلّدتْ وجوهُهم حيثُ أنَّ أحدَهم لا يستطيعُ مدَّ يدَه للآخَرِ؛ لأنَّ في هذه الكفِّ موتٌ لا يستطيعُ الإنسانُ تخمينَه.
ساءتْ أحوالُ الجميعِ ونفسياتُهم، والأهُل الّذين كانوا يرعَوْنهم بكلِّ حنانٍ مُفرطٍ، خافوا إنْ أَرْخَوْا قليلاً أنْ يفقُدوا الأحبابَ بصورةٍ لا يستطيعون بعدها رؤيتَهم مِنْ جديدٍ… كان الموتُ حاضراً دائماً في المكان، وكان الأملُ أشدَّ وطأة من اليأسِ، وكانتْ فكرةُ العلاجِ مؤذيةً كسرابٍ.
مرَّت الشهورُ وبالكادِ يَقدِرُ هذا المخلوقُ الضعيفُ العَيشَ، ليس لشيءٍ سوى أَمَلِهِ بعودةِ روتينِه البسيطِ من جديدٍ، لقد تعلَّموا أخيراً يا ولدي أنَّ ما عدا الصحةَ وقُربَ الأحبةِ رفاهيةٌ مُفرطةٌ، لقد أدركوا أنَّ ما نتذمَّرُ منه هو تصريحُنا المبطَّنُ على حُبنا له، هل تعلم يا طِفلي كيف كانوا يلتقون آنذاك؟
يلتقي الأخُ بأخيه وهوَ متوترٌ، قلقٌ عليه، يبعُدُ عنه ما أمكنَه الحُرْصُ، يتلعثَمُ في الحديثِ ولا يعرفُ كيفَ بعدَ كلِّ هذا البُعدِ الجسديِّ أنْ يتكلمَ إليه مباشرةً، يتوقُ لتقبيلِ أطفالِ عائلتِه سوى أنَّ “الخوفَ هوَ أصلُ كلِّ شيءٍ”، بكى مِنْ ضعفِه، ومِنْ شوقِه، ومِنْ عجزِه، ومِنْ تردُّدِهِ فيما هو صحيحٌ أم لا.
ظهروا على السَّطحِ وعَرَفوا عن بعضَهم ما ينبغي أنْ يبقى مجهولاً، وعلموا مَنْ منهم القادرُ على ألا يفقدَ عقلَه ويظلَّ قويًّا وسطَ كلِّ هذه الجائحةِ.
أتظنُّ أنَّ اللهَ أرادَ بهم شراً؟ وهل تأتي الشرورُ من خالقِ الخير؟ كلُّ ابتلاءٍ في ظاهرِهِ عذابٌ، في باطنِه رحمةٌ. لقد كان ذلك نتيجةَ إسرافِ المخلوقاتِ في مواردِ الخالقِ، ولولا أنَّه لم يأتِ هذا الوباءُ سيكون الويلُ على هذه الأرضِ أَلْعَنَ.
لقد رأف اللهُ بهم، كان اللهُ معهم، يمسحُ على قلوبهم، غير أنَّه لا بُدَّ من حدوثِ ذلك لتبقى الأرضُ فيما بعدُ حرةً طليقةً، وكما هيَ قصصُ الأنبياءِ يا ولدي، في أوَّلها حُزنٌ وكَرْبٌ، وفي ذروتها كَمَدٌ وتعبٌ، وفي نهايتها فرحٌ وفرجٌ، هل يأتي الصباحُ دونَ أنْ يعبرَ فوقَ الظلام؟ وهل يأتي الربيعُ دونَ أنْ يسبقَه زمهريرٌ؟ هكذا كانت النهايةُ…
فحينما ظنَّ بعضُهم أنَّه لا نهايةَ لهذا، واستبعدَ الآخرُ ذلك، كانت هناك فئةٌ قليلةٌ تؤمنُ باللهِ كلَّ يومٍ وكأنَّه اليومُ الأوَّلُ الذي عَرَفَتْ فيه خالقَها، ثمةَ دهشةٌ تجاه الخالقِ لم يستطعْ أحدٌ نزعَها منهم.
ففي كلِّ شدَّةٍ وارتفاعٍ للوباءِ كانوا ينزوون إلى ركنٍ شديدٍ، يدعونَه، يبكون وهم يعلمون مُسْبَقاً، بأَّن اللهَ أدرى بعبدِه، وأنَّ كلَّ ما يحدثُ من مصائبَ هو رحمةٌ بهم. هل تعرفُ شيئًا عن قلوبِ الصدِّيقين يا بُني؟ هكذا كانتْ قلوبُهم.
وأتتْ النهايةُ كصباحِ العيدِ، أَتَتْ صافيةً، أتتْ واقعًا أبلغَ من الخيالِ، وأشدَّ وقعًا منه، تصافحُ البشرَ بعدَ شهورِ الشوقِ، وتعانقوا حتى سقطوا على الأرض، تعالتْ الأصواتُ وأصبحَ الصُّراخُ من الفرحِ واجباً عليهم فعلُه، لقد عادتْ المائدةُ لشكلِها الأصليِّ، واستطاعتْ الأمُّ أخيرًا أنْ تُنوِّمَ طفلَها على صدرِها بكلِّ حنانٍ ودُفْءٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى