أقلام

مركزية العلماء ومحوريتهم في عقل وروح الشيخ الصافي

الشيخ عبدالجليل البن سعد

في الموسوعات الثقافية يقع الحديث عادة عن اغرب الاماكن في الجغرافيا السكانية او التاريخية او البشرية وان الحوزة العلمية فيما أرى تفوق الاماكن الاكثر غرابة في كل هذه النواحي، فبالرغم من انك ترى الجميع يعيشون فيها رتابة واحدة ويسيرون وفق نظام درسي شبه موحد، ويَحيَون في بقعة محدودة ومغلقة، ولكن الاختلاف في الرؤى الخاصة بالتعامل مع الحياة، و التباين في الاذواق والمخرجات التي تجعل فقاهة هذا واسعة بسعة الحياة فيما يقتصر الاخر على حدود ضيقة لهي تمثل من الناحية الفكرية اجتهادات وجودية ـ ولا نقول صراعات وجودية ـ ، وتأخذ في المخيلة صورة تيارات نهرية قوية، الشيء الذي يجعل الصخور الصغار تتحطم وتقتلع من مكانها أمام تلك التيارات، وما نراه من أعلام كبار هم في الاغلب الاعم مثل تلك الصخور الكبيرة ذات المحيط الروحي والفكري (وليس القطري) الواسع الذي جعلها تحافظ على نفسها من ناحية، وتحافظ على جمال المكان والتيار من ناحية أخرى، فلولا وجودها في هذا التيار لما كانت توصف بالجمال والصمود، ولولا توسطها في هذا التيار ما كان خلاّبا!!

وليس الشيخ المرجع الصافي الكلبايكاني “زاد الله في حسناته” الذي لبى نداء ربه هذا اليوم مختصا بهذا الوصف دون غيره ـ وهم قلة بطبيعة الحال ـ ولكن مراقبتي لأطوار حياته وطبيعة ادواره واهتماماته استطاعت ان تشدني الى شخصيته في الفترة التي قضيتها بقم المقدسة وجعلتني اهتم بقراءة كتبه ذات الطبعة المتواضعة جدا آنذاك لاكتشف فيما بعد ان كل شيء في حياة هذا الرجل الرباني هو متواضع وأشدها تواضعا قلبه الكبير، الذي حمله يوما من الايام على ان يقبل يد طالب علم افريقي ولو كان هذا من صنع قداسة البابا لطارت بها الصحف و وسائل الاعلام !!

وسنسمح لانفسنا في هذه السطور ان نتجاوز ثمار عمره التقليدية ــ التي تظهر مع الكثير من الفقهاء من قبيل الدروس أو الابحاث والتقريرات ــ الى الاثر الاكثر هيمنة على مساحة حياته الفكرية والعملية، فالشيخ البهي كان من الفقهاء الذين تمخض عراكهم مع الاذواق والاجتهادات المتكافئة ـ فيما اشرنا اليه اعلاه ـ عن الايمان بضرورة القيادة في الحياة، وان القيادة للاسلام، لكنه لم يختر لابراز ذلك والتعبير عنه طريقة البحث وتحضير نظريةٍ مصوغةٍ ومكتوبةٍ على غرار ما قدمه السيد الصدر في كتابه “الاسلام يقود الحياة”، الا انه ورغم مقامه الفقهي واستاذيته الاجتهادية عاش وفيا لعهده هذا لا تلتوي له قدم ولا ينثني له ساعد..وسنتابع مع القارئ تصنيف مسارح قيادة الاسلام التي اطلق فيها الشيخ ابداعاته الروحية ومهاراته الاخلاقية وفنونه العلمية:-

 

أ ) احترام العلماء:

ان العلماء هم قادة الاسلام الرسالي والتعامل الجميل معهم يأتي من جمال النظرة الى قيادتهم، و قد تلبس هذا الشيخ الصفي الصافي برداء الوزارة للعلماء القادة اكثر من نصف قرن دون ملل!! اذ كان وزيرا لقيادة علمية فريدة تجسدت في الحاج الاغا حسين البروجردي، فهو عضده الذي لا يُفت في ادارة مشاريعه و ارتباطاته العلمية والفكرية الممتدة شرقا وغربا..

وكان معاونا ومساندا للزعامة العلمية والدينية التي تجلت فيما بعد في السيد الكلبايكاني وقد كان الجميع في مكتب هذا السيد يثمنون لهذا الشيخ الفقيه حضوره ويرفعون من منزلته وان أروي لكم مما رأيت بعيني فهي روايتي لما شاهدته في غرفة استقبال السيد الكلبايكاني وكيف كانت تشتمل على مقعدين الاول يجلس فيه السيد والثاني يجلس فيه الشيخ لطف الله بينما يجلس البقية على الارض، وفي ذات مرة قصد جمع من الطلبة السيد المرجع في مشكلة تغضي المضاجع فكان الشيخ هو الذي يستمع لمتحدث الطلاب ويتداخل معه طلبا للتفاصيل التي تبني في داخله القناعة، و بعدها التفت الى السيد الكلبايكاني وقدم مقترحه فيما يجب ان يُنهى به تلك المشكلة، فابتسم له السيد وقال:”عيب نداره” وهي اذن له في ان يَـمضي في مقترحه لاجل التغلب على المشكلة المطروحة ولم يمضي سوى ايام حتى انجلت الغمة..

وفي ذلك الوقت كان عمر الصافي الكلبايكاني قد جاوز السبعين و هو العمر الذي يبادر فيه الكثير من ذوي الاجتهاد للاستقلال بانفسهم وطبع رسائلهم، أما هو فقد كان من القلة الذين يؤمنون بان المبالغة في احترام قيادة وزعامة العلماء مسؤولية ثقيلة وان مَن أعزّها فقد أعزّ قيادة الاسلام..

وكنا نعرف قبله مثالا فريدا في الاعتبار بزعامة الفقهاء والعلماء مع الشيخ محمد علي الاراكي فذاك قد كوّر اوراقه وطوى اجازاته ليلمع نجم مراجع ذلك العصر فناف على السبعين وتخطى الثمانين دون دعوى ولا اعلام لمرجعيته، ثم زاد في التواضع فنا ان جعل فتواه تعليقة على رسالة من هو اصغر منه سنا احتراما وتقديرا منه لزعامته، الا ان فضل الله ومنّه أبى الا ان يرفعه على قمة المرجعية وسنام الزعامة الدينية، فانسأ في عمره وتعدى المائة حتى القت الرئاسة المعنوية بثقلها عليه، وما أشبه ليلة الشيخ الصافي ببارحة الشيخ الاراكي!!

 

ب) دعم الحضور الفقاهتي في ادارة الحياة:

وعلى مسرح الحياة العامة للمجتمع لا يمكن استثناء أي تخصص من التخصصات العلمية والعملية، وان التخصص الفقهي يمثل الذراع الاقوى في تحريك المجتمع وتوجيهه بالارشادات اللازمة، طبعا ما نتكلم عنه هو صفة المتفقهين الذين يرون ضرورة الحضور بين صفوف المجتمع لينتظم انتظاما اسلاميا صحيحا، وهذا ما دفع بالشيخ الفقيد ان يستجيب لدعوته في عدة مجالس وتنظيمات ادارية تضمن للشرع كلمته العادلة و نفوذه المتوازن في حياة الفرد والمجتمع.

وان هذه الانبثاقة الشخصية لدى شيخ الفقهاء القميين في حرصه واهتمامه على الصدارة الفقهائية في ريادة الحياة، تضرب لنا أتم الامثلة على ان وعي الفقيه بروح الاسلام ليس بقدر ما يعيه من مصطلحات وتسميات فقط، بل من خلال ادراكه العقلي وحسه الفطري، فالشيخ الصافي الكلبايكاني تارة ينزل بنظرته القاضية بضرورة الاندماج مع القضايا العصرية من افق العقل، وتارة يخرج بها من باطن الواقع الاجتماعي، يتضح هذا بمراجعة بعض كلماته ومنها: “ان على الفقهاء احياء السنة ودفع البدعة وحفظ الشريعة وكفالة الامة ولولا ذلك لاندرس الدين وضاعت اثار الشرع المبين..” ومما املاه في هذا الجانب أيضا: “…ومن تدبر حق التدبر يعرف ان إشراف الفقهاء على الامور اضافة لمنزلتهم الروحية ومنزلتهم الروحانية في القلوب هو اقوى الاسباب الموجبة لبقاء التشيع وحفظ اثار المعصومين الى زماننا هذا(١)؛ لذا فهو يرى في النص الداعم لصدارة الفقهاء كالتوقيع الرفيع الصادر عن الحجة عليه السلام “…واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة احاديثنا” انه نوع مباركة و ارشاد لما ينسجم مع الفطرة.

 

ج ) احياء رمز القيادة الاسلامية الكبرى:

من ينظر في فهرست الاعمال الفكرية للشيخ لطف الله الكلبايكاني لا بد ان يلفته التمركز الواضح حول المسألة المهدية فقد كتب العديد من الكتب والرسائل باللغتين العربية والفارسية حول هذا الموضوع، من قبيل كتابه “العقيدة المهدية”، و “انتظار عامل مقاومت”، واكثرها سعة وعمقا كتابه: “منتخب الاثر في الامام الثاني عشر”، وان خلف هذا التمركز الكثير من الايحاءات وفي مطلعها وعيه بمبدأ الولاية والخلافة التي هي مبدأ الهي يسعى بالحياة الى السعادة العامة التي يكون الناس فيها سواء.

 

د ) وعي العلماء مفتاح القيادة والسيادة:

من يحلم بانه وسط غرفة مليئة بالغازات السامة فسوف يشعر بالاختناق ويتفاعل معه كما لو كان واقعيا، فيدلل العرق وارتفاع الضغط على تفاعل جسده، كما يدلل الصراخ والبكاء على تفاعل روحه ولا مخرج له من هذا الألم الا الاستيقاظ، وهكذا هو حال الكثير من آلام الأمة الاسلامية ومنها مشكلة الطائفية، فان الحمى التي تتسبب عنها سريعة التصاعد هي من كوابيس الشيطان ولا شيء يخفض منها الا يقظة العلماء و وعيهم بضرورة الانفتاح على الحوار العلمي الذي يُعرّف به كل طرف بحجته و شرعيته واستقلالية مذهبه، فكتب شيخنا الراحل في الحوار بحثا عن المنطق التقريبي كما في كتاب “أمان الامة من الضلال والاختلاف”، ورفضا للمنطق التمزيقي كما في كتاب “مع الخطيب في خطوطه العريضة”، وكتاب “صوت الحق ودعوة الصدق”..

لله وللانصاف:

ليس من العبط ان يُرفع الشيخ لطف الله الى رتبة المؤسس للبحث العقدي والكلامي على مستوى حوزة قم الجديدة، وان كان له شريك في التأسيس فليس الا السيد مهدي الروحاني، وقد حضرت مجلسا مسائيا مختصرا لا يزيد حضوره على الخمسين في باحة مكتب السيد الكلبايكاني “قدس سره” بعد وفاته بأمد قصير، وكان الشيخ جعفر السبحاني يتحدث فيه بمحضر الشيخ لطف الله الصافي ومما لا زلت اتذكره من حديثه انه يدين للشيخ المعظم بالاستاذية وانه قد تأثر به في دروسه وجهوده التي اعطاها وبذلها في هذا المضمار!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى